الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

من بيروت للشام.. بالهوا سوا!؟

د. نهلة عيسى

أنا في بيروت, والشوارع شبيهة دمشق, تضج بالأشجار تتقلد زينة الميلاد, وبالألوان, والبالونات, والورود, والدمى, وتماثيل العذراء والسيد المسيح, وملصقات تبدو وكأنها مكتوبة بدم قلب يسوع, تؤكد أن العرب في كل مكان يتسولون ويتكلفون الفرح, محاولين النزول عن حبل الأنين بأي ثمن, وباحثين عن وسادة ملونة يرتشفون منها النسيان, نسيان أن مابدأ قبل ثمانية أعوام, قابل لأن ينفجر من جديد في هذا العام, والأسى يلاحق الصدى, والأخبار طواحين هراء الهراء, تبني جداراً فاصلاً بينهم وبين الأمل!!.

الشوارع تضج بالألوان, لكن صورة العدو في الركن القصي, لأن الميلاد في هذا العام ليس ككل عام, فقد بدأ القلب واهن الساقين بمعاودة الفرح, رغم أن منديل دموع العين ما زال في اليد, والبلاهة رفيقة الهذيان على الشاشات, ومتعهدو خرابنا يبدون عليها تحت تأثير صحو مشلول القدمين, كالبوم المُباغت ينعقون, يغافلون الصدق بالخناجر المسمومة, لكي لا يرفعوا الرأس من وحل العمالة والتجاهل, وكأنهم “وضعوا الجواهر بدل العيون, فأصبحوا لا يرون, ويُشترون”!؟.

الشوارع مكسوة بالأشجار الملونة تستجدي الفرح, الذي ناجينا لأجله الرب سبع سنين, أيها الرب: قابلنا وقبّلنا كل الضفادع في الدنيا, بحثاً عن أمير, ولم نجد الأمير, فهل هناك عالم غير هذا العالم, أو حياة بعد هذه الحياة, ستبعث فيها لنا أميراً؟ أرجوك أيها العالي في سابع سما، أرجوك ابعثه هنا في الوطن, لأننا قبل كل وجع, وبعد أن ينتهي أو لا ينتهي الوجع, لن نغادر الوطن, فاستجاب الرب على مضض, لأننا مع فيروز منذ أزل نغني في الميلاد “لا تهملني لا تنساني يا شمس المساكين”, ثم بعد الميلاد ننسى الشمس ونلتحف بالعتمة ونشكو أننا محاصرون بالغل المخلل, رغم أننا باختيارنا رافقنا الظلمة!؟

الشوارع مزينة بالألوان, وظل كل من في بيروت كما دمشق في مرمى قناص, لإجبارنا على مغازلة النسيان, وعلى استبدال الكلمة, بالكمامة,  وخطوات الريح, بأزيز القيود, وزئير الأسود, بعواء الذئاب, ولوضعنا فوق هوة قاتلة لا مرئية, قوامها هرم من الأكاذيب, تدين كل واحد فينا, والإدانة.. تحنيط, وموت يومي مكرر, نمحى نحن من الوجود, ولا تمحى الادانة, فتنمو الطحالب على حيطان قلوبنا, مساحات شاسعة من حزن وقح, يصرخ في وجوهنا كل صباح: تنتظرون عودة رشد من باعوا الوطن!؟ هؤلاء ليسوا فجر يوم ربيعي مشمس (كما سموا هم موسم خرابنا), تحمل فيه ليلى الخبز والحب لجدتها, بل هم ذئاب, تكره بيوت الجدات, وتشقيها ضحكات الأحفاد, وتستعذب كسر الأرواح قبل الأجساد, فهل ستفهمون ذلك, أم أنكم ستبقون رهائن نصوص جاهزة, ممنوع فيها استخدام إشارات التعجب, والاستفهام, والتوكيد, كتبها بعض ممن كانت حربنا رزقتهم, قضموا فيها أسماء الإشارة, وركلوا الهمزات, وقفزوا فوق الحقائق, وعلكوا الحروف, وتخفوا خلف ظهور الكلمات, يمنحون الوهم, لأمهات في حضونهن, صور أبنائهن الشهداء, ثم يسترخون على مقاعدهم على الشاشات, يمارسون مهنة التنظير والتحليل, وصوغ الخطب, ونصدق نحن!!

الشوارع في بيروت كما دمشق مطلية بألوان الفرح, ولكن الوجوه كما في دمشق عارية من الفرح, فأضحك رغم الأسى, وأعزي النفس أننا لسنا وحدنا في الوجع, وأن الصواب وهو على عرشه, لطالما رافق الوجع, وصاحب الخذلان, وتربى في حضن المعاناة والرفض, فكيف إذا كان الزمان, آخر الزمان, حيث لا عرش, إلا للرصاص ومطلقيه, ولا رأي فيه, إلا للتجار, والفجار, وأصحاب القلوب المجللة بالكراهية, حينها أليس طبيعياً أن أشجار الميلاد في بلادنا كومبارساً في فيلم بدوي, وأن تغدو ظلالنا دريئة, وركبنا هدفاً, لعلنا نسقط, فنحبو, فيتوهمون الانتصار, ناسين أن حبونا في الوطن, يجعل من ركبنا سبورة, نرسم عليها خريطة الوطن, الذي لا يباع ولا يشترى, وأن حبوهم في ظلال العواهل والعروش, يجعل منهم عبيداً لمن يشتري, وما أكثر من اشتروا, وننتظر في ميلادنا هذا أن يبيعوا, فتنتهي حربنا, وتبدأ حربهم!!.