أخبارصحيفة البعث

الجولان والجلاء ومدرسة المقاومة

د. صابر فلحوط

تعلمنا دروس التاريخ، أن للعظماء عمرين: الأول: في سوح الجهاد، والفداء الوطني والقومي، والثاني في رفرف الخلود، حيث الشهداء، والأنبياء، والقديسون.
وفي حضرة الجلاء الأغر، لا بد أن نستذكر الرجال الذين صنعوا لشعبنا، وأجياله الطالعة، على مدرج المستقبل أسطورة الجلاء الذي شيّد الدولة الوطنية المنيعة، وأرسى صخور الأساس لمستقبل زاهر لوطن الكرامة والشهامة والعروبة. ويأتي في مقدمة هؤلاء الرجال من أبناء شعبنا، القائد العام للثورة السورية الكبرى – سلطان باشا الأطرش – الذي تمرّس بالكفاح في أواخر عصر الاستعمار العثماني البغيض، غداة أعدم السلطان التركي والده المجاهد ذوقان الأطرش، ووضع طلائع أحرار سورية العربية في سجون الباب العالي كما علق مشانق شهداء السادس من أيار الأبطال، في توقيت واحد، في ساحتي المرجة، والبرج في كل من دمشق، وبيروت، كخاتمة لتواجد هذا الوباء العثماني الذي سيطر على الوطن العربي أربعة قرون بكل ما حملت من ويلات، ومصائب، وكوارث، وآلام للأمة العربية… وفي حضرة الذكرى السابعة والثلاثين لرحيل القائد العام للثورة السورية الكبرى، وعلى هدير الشارع الشعبي هذه الأيام، والذي يشهد عنان السماء، استنكاراً، وإدانة لقرار الرئيس الأمريكي ترامب بمنح الجولان العربي السوري للعدو الصهيوني، لا بد أن نستذكر البيان الأول للثورة السورية الكبرى والذي كانت فاتحته: (أيها العرب الأمجاد إلى السلاح إلى السلاح، اطلبوا الموت توهب لكم الحياة، الدين لله والوطن للجميع). وقول الشاعر القومي:
(يقولون وجه السيف أبيض دائماً
فما أبيض إلا وهو أحمر بالدما)
(فإن يكُ دفع الشر بالخير حازماً
فمازال دفع الشر بالشر أحزما)
وكانت هذه المعاني، والشعارات الفدائية الرائعة، هي منطلقات ومفاهيم راسخة في قلوب قادة الثورة السورية الكبرى وأبطالها عام 1925 جميعاً. والتي عمت الساحل، والسهل، والجبل والبوادي في سورية الصمود وكان في صدارة أبطالها الميامين: (صالح العلي، حسن الخراط، ابراهيم هنانو، أحمد مريود، أمير شلاش، عبد الرحمن شهبندر، وفارس الخوري، وشكري القوتلي، والسلسلة المباركة حلقاتها تطول…
إن انتصارات الجلاء التي أبدعها أجدادنا الأشاوس لا بد أن تكون الزاد، والعتاد، والدرع، والملهم لأهلنا هذه الأيام كما على الدوام.
في هذا الجولان الصامد، صمود الجبابرة منذ أكثر من نصف قرن، وكأنه يشاطر جبل الشيخ في صلابته وعناده، وشموخه. وكأني بهم يعلمون أطفالهم، صباح مساء، عظمة الأرض التي يعيشون فوقها، وقدسيتها، ومكانتها في التاريخين السحيق والحديث..
أليس الجولان كان مضافة لدولة الغساسنة العربية اليمانية وشاعرهم القائل في مدحهم :
(وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت كتائب من غسان غير أشائب)
إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب)
كما كان مرحّباً ومسانداً لخالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة من قادة الفتح الذي طرد الرومان وقائدهم هرقل صاحب المقولة الشهيرة في تاريخ الاستعمار: (سلام عليك يا دمشق، سلام لا لقاء بعده).
وفي ليل الاستعمار الفرنسي ألم تلمع نجوم زواهر من أبطال الجولان أمثال مريود، والفاعور وسواهم من الذين واجهوا (غورو) وهو في الطريق إلى جبل العرب وأصابوه حيث نجا من الموت بمعجزة؟!!
أولم يكن الجولان ممراً آمناً للمناضل اللبناني أدهم خنجر الذي جاء من الجنوب العظيم، قاصداً إدارة سلطان باشا في جبل العرب ليسهم في الثورة.
ويقيني أن الأهل في الجولان، وهم مدرسة في الفداء، وصلابة الإدارة والإيمان الذي لا يتزعزع في أن طائرات العدو الصهيوني، ودباباته، ورصاصه، ومتفجراته، ليست سوى وسيلة تعيسة أمام القدر الذي وحده يحدد للمرء لحظة موته، وانتقال دوحه، وتجديد قميصه، الأمر الذي يمنحهم عزيمة وشجاعة، أين منها بطولات الكاميكاز اليابانيين وغيرهم من الأشداء، في تاريخ الفداء..
وأتمنى كذلك أن يتذكر هؤلاء الأهل دوماً، وهم أساتذة في المقاومة والجهاد والإيمان، أن قدوتهم في الصلابة والإيمان (سلطان باشا) الذي مازالت عباءته المخرقة برصاص المستعمر الفرنسي في معركة الكفر في جبل العرب تتصدر متحف القدس، وقد حملها إلى المتحف المناضل الفلسطيني صبحي الخضرا الذي كان يشارك إلى جانب القائد العام في تلك المعركة، التي تؤكد التآخي التاريخي بين الدم السوري والفلسطيني في معارك الأمة العربية الواحدة.
وقد أسعفني القدر أن أرى هذه العباءة الرمز في متحف القدس مرتين في عامي 1958 وعام 1966 .
وكذلك أسعفني القدر أن أستمع إلى سلطان باشا وهو يحمّل وفداً حضر من دمشق إلى القريا لزيارته بعدما أبلّ من وعكة صحية، قائلاً: (سلموا على السيد الرئيس وقولوا له عودنا بعد فيه دخان، وفروا هالشباب وحطونا على الحدود حتى نختم حياتنا مثل ما بدأناها..)، وكان ذلك بعدما اجتاز القرن من عمره الطويل، الذي وصفه أحد الشعراء لحظة سماعه النعي في آذار 1982 بقوله:
(وأخيراً تمكن الموت منه بعد قرن من الصراع العنيد)
وهنا لا بد أن نذكر، أيضاً أن القائد العام امتاز بأمرين اثنين لم يسبقه، ولم يأت بعده، من حاز شرفهما:
الأول: أنه أول قائد ثورة في تاريخ العالم، يعود إلى عمله السابق فلاحاً بسيطاً في قريته، دونما أي منصب على الإطلاق، حتى المنزل الذي قدمته الحكومة بعد الجلاء هدية له، قدمه بدوره هدية لمؤسسة الهلال الأحمر السوري..
والثاني: أنه أول قائد ثورة منتصرة ليس له أي منصب رسمي، يقوم بإعلان نعيه للأمة العربية وأحرار العالم السيد الرئيس حافظ الأسد تقديراً لتاريخه الجهادي والوطني:
كما أن الملايين شاهدوا عبر الإعلام يوم ارتحاله وفي الميدان الذي أعد لتأبينه وسط السويداء، أن جثمانه بقي محمولاً على سواعد ضباط الجيش العربي السوري أربع ساعات كاملة في سابقة مشهودة.. وهنا نستذكر ما قاله الشاعر العربي الكبير -الجواهري- في تأبينه مستحضراً (سلاطين العرب ونواطير النفط):
(حضر الجلاء وأهله رحلوا
وأبو الجلاء اليوم قد رحلا)
(خلوا بنادقه تؤبنه
ولترقدوا من حوله خجلا)
(عشرون سلطاناً لأمتنا
هووا، وسلطان الجلاء علا)
فيا رفاق سلطان من بقايا سيوف الثورة السورية الكبرى، ويا أحفاد سلطان من أبناء سورية العربية، والجولان الأشم، والقائد الخالد حافظ الأسد، إن جيشكم الإعجازي البسال، وشعبكم العظيم بصموده وعناده، وقيادتكم العبقرية المدهشة في إدارة معارك السياسة والسلاح وقراءة المستقبل على شموع الماضي المبهر، تضعكم بين البطين والأذين في قلبها الكبير، وكما انتصرت في حربها الوطنية العظمى ضد عملاء الصهيونية وأمريكا، والرجعية النفطية، سوف تنتصر على (قرار المنحة الترامبية) للعدو.
ولنتذكر على الدوام قولة القائد الخالد الرئيس حافظ الأسد في حواره مع القادة الأمريكيين: (يجب أن يعلم العالم أن سورية هي الجزء الشمالي من فلسطين، والجولان والقدس في وسطها) وأن (ذرة واحدة من صخور الجولان والقدس، تساوي الشمس والقمر معاً في نظر الشعب العربي السوري).