الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أثر الفراشة

 

د. نضال الصالح

تكمن قيمة أيّ نصّ، مهما يكن الحقل الذي ينتمي إليه، أدباً أو فكراً، في الأثر الذي يتركه في قارئه. في إثارة الأسئلة لديه أحياناً، وفي تزويده بمعرفة جديدة أحياناً ثانية، وفي تثمير وعيه أحياناً ثالثة، وفي تنمية ذائقته الجمالية أحياناً.. وما سبق كلّه، وسواه، دائماً. وأيّ نصّ ينتهي حضوره بلحظة قراءته لا يكون أدباً، ولا فكراً، بل كلمات وعبارات متبوعة بشقائقها، وربّما ببنات عمّها، وربّما.. فحسب.

في المكتبة العربية، وفي الدوريات الثقافية العربية، ما تضيق مجلدات به من الأمثلة  الدالّة على كتابات هي مجرّد كتابات، ما إن ينتهي المرء من قراءتها، حتى يعتب على نفسه لأنه لم يُحسن استثمار الزمن في إضافة الجديد إلى ذاته على أحد مستويين، أو على كليهما معاً، الفائدة والمتعة، حسب “رينيه ويليك” في “نظرية الأدب”، ولأنّه كان عليه ألا يبدّد وقته في القراءة، بل أن ينصرف إلى شأن آخر، بدلاً من إضاعته هذا الوقت فيما لا يُغني من جوع، جوع المعرفة والإحساس بالجمال.

النصّ، أيّ نصّ، وأيّاً يكن مرجعه المعرفيّ والإبداعيّ، محكوم باعتبار رئيس إذا ما شاء لنفسه أن يبقى في ذاكرة قارئه، هو أثره في هذا القارئ، ولكي ينجز هذا الاعتبار، فلا بد له من اعتبار توءم، هو صدوره عن ذات تستجمع قيمتين، الثقافة والذائقة. الأولى بوصفها  مادة، والثانية بوصفها روحاً، وسوى هاتين القيمتين، بل سوى واحدة منهما، يعني، فيما بعد القراءة، وللقارئ نفسه، استعادة للمثل العربيّ القديم: “رجع بخفّي حنين”.

في “أدب الكاتب” للصوليّ قوله: “وقيل: الحبرُ مأخوذ من الحبَار، وهو أثرُ الشيء”، وفي “صبح الأعشى” للقلقشنديّ: “حبّرتُ الشيء تحبيراً إذا حسّنتُه”، وإذا كان ممّا استقرّ في المتواتر الإنسانيّ أنّ ما يغادر القلب موقعه القلب، وما يغادر اللسان لا يتجاوز الآذان، فإنّ أثر أي قول، شفهيّ أو مكتوب، هو كفاءة هذا القول في تحريض متلقيه على متابعة قائله، ذاتاً أو نصّاً، وفي دفعه هذا المتلقي إلى البحث عن المزيد من منجز هذا القائل، لا كبح إرادته في البحث.

غير أنّ واقع الحال في الثقافة العربية المعاصرة، ولاسيما في العقدين الأخيرين منها، هو ندرة المكتوب المنتج لأثر، وغلبة نقيضه، بل بلوغ هذا النقيض من الكمّ حداً صار من الواجب على المعنيّ بفعل القراءة معه العدّ إلى المئة قبل إقدامه على قراءة ما ليس متأكداً من جدارته بغير شيء، ومن ذلك، بل من أول الأول فيه، ما اصطلح “ويليك” عليه، وما تمت الإشارة إليه من قبل، أي الفائدة والمتعة.

وبعد، فلعلّ ما يختزل ما سبق من القول، بل القصد، بديعة الراحل محمود درويش “أثر الفراشة” التي منها: “أثر الفراشة لا يُرى. أثر الفراشة لا يزول. هو جاذبيّة غامضٍ يستدرجُ المعنى، ويرحلُ حين يتضح السبيل. هو حقّه الأبديّ في اليوميّ، أشواقٌ إلى أعلى، وإشراقٌ جميل. هو شامة في الضوء تومئ، حين يرشدنا إلى الكلمات باطننا الدليل. هو مثل أغنية تحاول أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلال، ولا تقول”.