دراساتصحيفة البعث

إعلام أمريكا المضلل يعود بنا إلى غزو العراق

 

ترجمة وإعداد : لمى عجاج
بات من المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخها الطويل اعتادت على توظيف وسائل الإعلام واستغلالها بدهاء لخدمة أجنداتها عبر المسؤولين الحكوميين والجماعات السياسية والمشرعين والموظفين التابعين لهم في جميع الأحزاب السياسية الذين يقومون باستثمار الإعلام لخداع الرأي العام وتضليله لجعل أفكارهم المتطرفة تتحول إلى قناعات أيديولوجية غير قابلة للشك، وذلك من خلال صناعة إعلام زائف مُضلل ينتقي الأخبار الدسمة والمؤثرة ويقوم بتزييفها لتكون وسيلة لتأجيج العنف والصراع الدموي، لتقوم بعد ذلك بتوظيف المادة الإعلامية لخدمة توجهاتها دون أن تظهر في الصورة فهي تعمل من وراء الكواليس وتحاول دوماً إخفاء بصماتها، وهذا تماماً ما رأيناه يحصل عندما قامت إدارة بوش بالتسويق للغزو الأمريكي للعراق وتبرير أسبابه للجمهور الأمريكي، مع العلم بأن الجميع على دراية مسبقة وأكيدة بأنها تعتمد على رواية ملفقة وغير دقيقة عن وجود برنامج لأسلحة الدمار الشامل في العراق قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتزييفها ونشرها على أنها أخبار موثقة دون التأكد من مدى صحتها.
لكن النتائج الكارثية التي نجمت عن الغزو الأمريكي للعراق لم تكن كافية لتلقن الولايات المتحدة درساً تستفيد منه، فهاهي إدارة ترامب تقع في نفس الخطأ بسعيها الدائم لإثارة حربٍ مع إيران، ففي واقعة مخزية وفاضحة سبقت الحرب على العراق بعدة أشهر ومهدت في وقتها لهذه الحرب، أدلى نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بتصريحٍ خطير في لقاء متلفز لمحطة NBC يدعى “لقاء الصحافة” اتهم فيه الرئيس العراقي بسعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل والحصول على المواد الأولية التي تستخدم في استخلاص اليورانيوم المخصب، واستخدامه في تصنيع القنابل النووية وبخاصة المصنوعة من أنابيب الألمنيوم. حرص ديك تشيني في مقابلته على الإشارة إلى أنه لم يستق معلوماته من فراغ، بل أنها جاءت استناداً لمعلومات مهمة نُشرت في تسجيلات مسربة لصحيفة النيويورك تايمز ليصدر بعدها تصريحٌ آخر لا يقل خزياً عن الذي سبقه. صدر في حينها عن مستشارة الأمن القومي “غونداليزا رايس” بعد أن أثارت الرواية التي روتها صحيفة التايمز حماسها لتتشدق بالآتي”لا نريد لدخان الأسلحة أن يتحول إلى سحابة تمطر فوق رؤوسنا”، لكن واقع الحال هو عكس ذلك تماماً، فجميعنا يعلم أنه في ذلك الوقت قام المسؤولون في إدارة بوش بتسريب هذه الرواية للمراسلة الصحفية في صحيفة “نيويورك تايمز” “جوديث ميلر” لتقوم بكتابة مقال عنها ليكون سبقاً صحفياً يتصدر واجهة الأخبار في الصفحة الأولى للتايمز بالتعاون مع زميلها ميكائيل جوردن. أشار المقال الذي تم نشره في وقتها إلى امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل وتحدث أيضاً عن نيته في تصنيع مفاعل نووي، لتتراجع بعدها النيويورك تايمز عن تقريرها بحجة أنها تعرضت للتضليل حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ولتعترف بأن تقاريرها كانت مليئة بالأخطاء وغير دقيقة قائلة: إن هناك بعض الخلافات الداخلية حول الغرض من الأنابيب (والحقيقة أظهرت أن الأنابيب لم تصنع بغرض صنع أسلحة نووية).
اليوم نحن نشهد المسرحية نفسها ولكنها بمشهد مختلف وذلك بعد أن أثار مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب في بيان صحفي مدوي عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية إرسال حاملة طائرات وقاذفات قنابل إلى الشرق الأوسط لمواجهة أي تهديد إيراني محتمل، وعلى الفور وكعادتها سارعت معظم وسائل الإعلام إلى تناقل الخبر وتداوله دون التحقق من مصداقيته أو حتى دون التنبه إلى حقيقة أن بولتن هو ذات الرجل الذي كان يسعى إلى قرع طبول الحرب مع إيران لأكثر من عقدين من الزمن فهو نفسه من قال “لتفادي هجوم إيران، هاجموا إيران” فما كان من الأوساط الإعلامية على اختلافها إلا أن قامت بتكرار ما ورد في بيان بولتن دون أي تعديل، لأن وظيفتها في الأساس هي خدمة المصلحة الأمريكية وتنفيذ إملاءاتها، وهذا بالضبط ما قامت به “السي إن إن” بعد أن تصدر بيان بولتن عناوينها الرئيسية في اليوم التالي، لتنقل نية الولايات المتحدة إرسال حاملة طائرات وقاذفات قنابل بعد تلقيها معلومات تفيد بأن إيران تنوي ضرب الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط.
لقد أعاد الجزء الأكبر من التقرير تكرار المزاعم التي أطلقتها الإدارة الأمريكية حول التهديد الإيراني المحتمل حرفياً وبحذافيره، في حين استغرق التقرير ما يقارب الأربع والعشرون فقرة لينوه إلى أن مهمة انتشار حاملة الطائرات لينكولن ومجموعتها القتالية وإرسال قاذفات القنابل إلى الشرق الأوسط هي مهمة “روتينية” رداً على ما تراه الولايات المتحدة الأمريكية تهديداً محتملاً من قبل إيران حسب ما ورد في بيان بولتن، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل وجد تقرير “السي ان إن” جواباً للتساؤل المطروح؟! هل استطاع هذا الحدث الروتيني بنشر حاملة الطائرات لينكولن ومجموعتها القتالية إخفاء نوايا بولتن الدفينة ورغبته في إشعال حرب مع إيران شبيهة بالحرب التي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإشعالها في العراق سابقاً، وهل كانت الاستخبارات السرية الأمريكية دقيقة في معلوماتها؟! وهل تمكن جون بولتن بدهائه السياسي المعهود من التلاعب بعقل الجمهور الأمريكي وخداعه بما يخدم رغباته الشخصية بمثل هذا التصرف المتهور وغير المسؤول؟.
يعود التاريخ مجدداً ليعيد نفسه لنجد المراسلة الصحفية لسي ان ان “بربارة ستار” تكرر غلطة “جوديث ميلر” التي تعيد على مسامع الجميع مزاعم إدارة ترامب عن خطر إيراني محتمل ومثير للقلق يهدد الجيش الأمريكي لتغرد في اليوم التالي على موقع تويتر قائلةً ” أُخبرت للتو: أخبرني مسؤولون أمريكيون بأن التهديدات الإيرانية حسب معلومات استخباراتية (محددة وموثقة) ستطال القوات الأمريكية في سورية والعراق وفي البحر”، ليتبين لاحقاً أن هذه المعلومات خاطئة أو بالأحرى استخدمت للتضليل، فقد ذكرت تقارير إخبارية وردت فيما بعد أن المعلومات الاستخباراتية التي كان بولتن يعمل بموجبها “غير دقيقة” كما أشارت تقارير أخرى نُقلت عن مسؤولين أمريكيين لم تأت على ذكر أسمائهم قولهم إن هناك “تحضيرات محتملة” ربما تشير إلى “هجمات محتملة” وإن الولايات المتحدة “لا تتوقع أي هجوم إيراني وشيك” أي بعبارة أخرى ليس هناك أي تحرك ملموس أو محدّد يستدعي إرسال حاملة طائرات مجهزة بمجموعة قتالية بالإضافة إلى قاذفات بي- 52 إلى الشرق الأوسط، وفي وقت لاحق من هذا الأسبوع عادت “بربارة ستار” والتي كانت ضحية جديدة للتضليل الإعلامي الأمريكي (كغيرها من الصحفيين) لتغير أقوالها مرةً أخرى وتؤكد بأنها استقت معلوماتها من مصادر مجهولة وبأن المعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها، والتي تفيد بأن إيران من المحتمل أن ترسل صواريخ بالستية قصيرة المدى على متن قوارب في الخليج كانت من ضمن الأسباب الرئيسية التي جعلت الولايات المتحدة تتخذ قرار إرسال قوة حاملة الطائرات وقاذفات بي-52 إلى المنطقة”.
لكن NBC أصدرت فيما بعد تقريراً آخر قلّل من أهمية هذا الادعاء وأشار إلى أن مسؤولين أمريكيين “اتهموا إيران بنقلها على عدة سنوات لصواريخ بجميع مكوناتها عبر الممرات المائية الموجودة في المنطقة”، ولكن هذا لم ينفي حقيقة أن تقرير NBC كان مخزياً ومعيباً وذلك بسبب نقله لمزاعم دون تدقيقها والتأكد من صحتها أو حتى دون ذكر أسماء المسؤولين الذين سربوا هذه المعلومات الاستخبارتية عن إيران وكشف هوياتهم.
لكن ماذا يعني كل هذا؟! وهل هذا النوع من “التهديد” على حد تعبيرهم يستلزم مثل هذا الرد العسكري الضخم؟! أوليس من الممكن أن تكون الحملة التي سميت بـ “الحد الأقصى من الضغط” والتي أطلقتها إدارة ترامب ضد إيران إلى جانب التهديدات التي أثارتها الإدارة الأمريكية (كتصنيف الحرس الثوري كجماعة إرهابية ) سبباً رئيسياً وراء إعلان إيران عن حالة التأهب القصوى. وفي نهاية تقرير NBC جاء تصريحٌ لمصدر ديمقراطي في الكونغرس أطلع على نفس المعلومات الاستخباراتية قال فيه: إن ردّ فعل ترامب وبولتن لا يتناسب مطلقاً مع ما حصل، لذلك كان من البديهي أن يستنتج الصحفي من تلقاء نفسه/نفسها أن هذا التهديد مبالغ فيه ومستغرب، ويثير التساؤل فهل يمكن لدعوة الحلفاء أن تتسبب في مثل هذا الرد العسكري الصارم؟!.
لقد كان حقاً الوصف المناسب الذي يليق بوصف هذه المعلومات الاستخباراتية وذلك حسب ما نقلته صحيفة الديلي بيست الأمريكية هذا الأسبوع من”مصادر متنوعة مطلعة على الوضع” والتي قالت بأن بولتن وفريق ترامب كشفوا عن معلومات استخباراتية “غير متناسبة” ، وبالغوا في ردة فعلهم تجاه هذا التهديد وأعطوه حجماً أكبر مما هو عليه في الواقع. لكن الخطأ قد وقع فعلاً ولسوء الحظ لم يعد بالإمكان تداركه فقد تناقلت البرامج الإخبارية التلفزيونية بالتعاون مع الصحفيين السذّج والمغفلين مزاعم ترامب حول هذا التهديد الإيراني المزعوم على أوسع نطاق.
على كل حال كانت هذه الغاية المنشودة، فقد أدرك بولتن ومساعدوه أن وسائل الإعلام ستبتلع الطعم في غضون القادم من الأيام (ففي النهاية المطلوب هو التسويق للحرب والصراعات الدموية) والغاية هي طمس الحقيقة مع مرور الوقت، فالرواية البشعة التي اختلقتها الولايات المتحدة الأمريكية عن التهديدات الإيرانية -قد ترسخت بالفعل في الوجدان الأمريكي- والتي تتمثل في المقولة التي غالباً ما تنسب بالخطأ إلى وينستون تشرشل أو مارك توين “يمكن للكذبة أن تسافر إلى آخر الأرض في الوقت الذي تكون فيه الحقيقة تتأهب مستعدةً للانطلاق”.