أخبارصحيفة البعث

العالم من حولنا

 

يخطئ من يعتقد أنه يعيش في جزر معزولة، وبمنأى عمّا يحدث في العالم من تطوّرات على المستويات كافة، والمقصود هنا ليس التطورات السياسية، وإنما التطوّر العلمي والتقاني والمعرفي، فالنظام الدولي هو بالنتيجة انعكاس لموازين القوى الاقتصادية والعسكرية والعلمية الحاصلة بين القوى الكبرى في العالم، وهنا يمكننا الحديث عن مستويات ثلاثة “عسكري اقتصادي ومعلوماتي”، وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تمثّل راهناً أكبر وأضخم قوة عسكرية وبلا منازع، حيث تبلغ موازنتها العسكرية حوالي 700 مليار دولار، أي ما يعادل نصف الإنفاق العسكري لكل دول العالم، إلا أنها تواجهه منافساً اقتصادياً وازناً، وهو جمهورية الصين الشعبية، وهي أكبر شريك اقتصادي للولايات المتحدة الأميركية وأكبر حامل سندات خزينة، إلا أن الاقتصاد الأميركي يشكّل ربع الاقتصاد العالمي تقريباً، حيث الناتج الإجمالي الأميركي يبلغ حوالي عشرين تريليون دولار سنوياً.
وإذا وضعنا جانباً القدرات العسكرية والاقتصادية يبرز العامل المعلوماتي والعلمي عنصراً أساسياً في موازين القوى الدولية، حيث يبرز دور شبكات الاتصال والتواصل في هذا المضمار كعوامل مؤثرة في السياسة الدولية والتأثير في الرأي العام، إلى درجة أننا أصبحنا أمام ظاهرة سياسية التغريدات عبر فيسبوك وتويتر لتحل محل المؤتمرات الصحفية والبيانات السياسية وظاهرة الأحزاب والكتل السياسية التقليدية، ما يعني من الناحية العملية أننا أمام انقلاب في المفاهيم التقليدية للعمل السياسي والدبلوماسي، ما يستدعي الحاجة لمراجعة عميقة وشاملة لآلياتها وأدواتها بشكل بنيوي وعميق، حيث أصبحت تعيش حالة مرض سريري يضعها في ثلاجة السياسة.
إن النظام الدولي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الأولى فرضته من الناحية العملية الآلة العسكرية، التي اعتمدت على الطائرات المقاتلة، في الانتصار الذي حققه الحلفاء على دول المحور، فاحتلت بريطانيا وفرنسا مقعده الأول في الحرب العالمية الثانية، فكانت القنبلة الذرية الأميركية من حجز مقعد أميركا لتكون سيدة العالم بلا منازع لعقود عدة، ولعل ما أقصى الاتحاد السوفييتي عن سدة المنافسة في الحرب الباردة، وجعل أميركا القطب الأوحد هو إطلاق رونالد ريغان لحرب النجوم وسباق الفضاء، واليوم تعود المنافسة من جديد ليتسيّد المشهد غوغول وفيسبوك، واليوم يتربع على عرش المال بيل غيتس بـ 91 مليار دولار متجاوزاً أباطرة البترول والغاز وتجارة الألماس، ما يعني أننا أمام عالم جديد، جنرالاته أصحاب العقول والإبداع والاختراع.
إننا أمام عالم يتشكّل بسرعة غير مسبوقة، من لا يتمكن من الانخراط في حيثياته والتعامل بمفرداته سيكون على قارعة الطريق، فالنظام الدولي الذي سيتشكّل، ونحن أمام إرهاصاته، سيكون عالماً تحدد ملامحه مراكز البحث والاختراع والإبداع، وجنوده أجيال فكرية مسلّحة بأحدث أساليب المعرفة والتعليم، تتعامل مع معطيات العلم ومنتجات العقل، وتستعين بلغة الأرقام، وتفكر بطريقة مختلفة بعيداً عن الأوهام والماضي المتخيل وأمراضه، فقد غادره من اللحظة التي قال فيها نيتشه: “هكذا تكلم زردشت” وسبقه مارتن لوثر بمقولته: “إن الاتصال مع الله لا يحتاج إلى وكلاء، فالعقل هو المرجعية والمرجع”.
د. خلف المفتاح