“العام” يراه تبديداً للموارد و”الخاص” محكوم بضعفها! ضغط الإنفاق وقصور الرؤية يطيحان بسوق التدريب
لم تترسخ بعد لدى القائمين على المؤسسات العامة والخاصة أهمية التدريب كمساهم مهم ورئيس في صناعة الموارد البشرية، وفي رفع وتيرة الإنتاج وتقليل الهدر والفاقد، فما سر ضعف هذه الصناعة في بلادنا حتى الآن؟! ولِمَ تنفق هذه المؤسسات مبالغ كبيرة في أوجه إنفاق أقل أهمية من التدريب، في الوقت الذي يعد الإنفاق عليه شيئاً من الترف وضياع الموارد..؟!
انكفاء.. !
يرى مراقبون أن سوق التدريب في البلاد – بأنشطتها ومستوياتها كافة- تراجعت على نحو حاد، فالمؤسسات العامة انكفأت، وضغطت مخصصات الإنفاق على التدريب أحياناً، فيما حولتها إلى بنود وأنشطة مختلفة أحياناً أخرى، فصانع القرار في الكثير من هذه المؤسسات يرى في التدريب إنفاقاً لا جدوى منه، وتبديداً لأموال المؤسسة، التي يمكن الاستفادة منها في مجالات أكثر أهمية..!
المؤسسات الخاصة، والتي هي بطبيعة الحال أقل تحفظاً على النشاط التدريبي عموماً، خفضت هذا الإنفاق، وإن بدوافع مختلفة عن نظيرتها العامة، ولكن في كلتا الحالتين ظلت العملية التدريبية بأطرافها كلها ضحية هذا “الترشيد” في الإنفاق، والذي قدر هؤلاء المراقبون، وبعض رجال الأعمال ممن حاورتهم (البعث)، نسبة تراجعه، قياساً بمرحلة ما قبل الأزمة بنحو 70-80 بالمئة، وهي نسبة قاتلة بالنظر لضعف وصغر حجم سوق التدريب، حتى في مرحلة ما قبل الأزمة..!
من أين تأتي أهميته..؟
لا يقتصر مفهوم التدريب الحديث على تنظيم الدورات التدريبية التقليدية، ومنح شهادات حضور لهذه الدورات، بل أصبح خياراً استراتيجياً في منظومة تنمية واستثمار الموارد البشرية؛ لأن بناء المؤسسة الناجحة لا يعتمد على كثرة الموارد التي تملكها، بل على نوعية الأفراد القائمين على إدارة واستثمار ما تملك من ثروات، ووضع وتنفيذ ما تسير عليه من سياسات.
وتركز مدربة التنمية البشرية كوثر هرملاني على أهمية التدريب كمساهم رئيس في إنجاح خطط التنمية، وتوفير السلع والخدمات؛ لأن التدريب يمكّن المتدرب من امتلاك المهارات والخبرة اللازمة لرفع سوية الإنتاج، ويختلف التعليم عن التدريب في جانب مهم وجوهري؛ فالأول يعطي المعلومات والمعارف، بينما الثاني يعطي المهارة اللازمة لتطوير وتحسين العمل.
وتبدي هرملاني تفاؤلاً بمستقبل سوق التدريب، انطلاقاً من تنامي الوعي المجتمعي تجاه ثقافة التدريب على المستوى المؤسسي والشخصي، بدليل كثرة أعداد المدربين وطالبي التدريب، مع التحفظ على مستوى ونوعية كوادر وحقائب التدريب، في ظل غياب تقييم حقيقي للمدربين، داعية إلى أهمية أن تستثمر البلاد في تنمية رأس المال المعرفي (البحث، التطوير، الموارد البشرية) كشرط لتأسيس صحيح ومتين لقاعدة مرحلة إعادة الإعمار.
يحسن أداء الشركات..
يساعد التدريب الموظفين على حل المشكلات المتعلقة بعدم معرفة العامل لما ينبغي عليه فعله، وكيفية القيام بذلك؛ ما يحسن الأداء الوظيفي للشركات، وبالتالي تحسين الحالة المالية لها، كما أنه يعمل على تقليل الوقت اللازم للتغلب على هذه المشكلات، والحد من ازدواجية الإجراءات المتخذة لإتمام العمل نفسه، وتكاليف الصيانة، والحاجة إلى الإشراف على الموظفين من أجل زيادة الإنتاجية، وتوفير الموارد البشرية الاحتياطية في المنشأة، وفقاً لما يرى المدير العام لإحدى الشركات الناشطة تدريبياً والمدرب وائل الحسن.
كما يوفر التدريب لإدارة المؤسسة، وفقاً للحسن، تكلفة استبدال موظفيها بآخرين جدد، حيث إن تكاليف الاستبدال تكون مرتفعة عادة؛ لأنها تشمل انتهاء الخدمة، والتكاليف الإدارية، وإجراء المقابلات الوظيفية والمواصلات والفحوص الطبية، وغيرها الكثير.. وتشير الدراسات إلى أن تكلفة استبدال الموظف تزيد بارتفاع مستواه الوظيفي، فمثلاً تكلفة استبدال مدير في الإدارة الوسطى هي بحدود 20% من راتبه البالغ مئة ألف ليرة سورية، أما تكلفة استبدال مدير تنفيذي براتب 400 ألف ليرة، يمكن أن تصل إلى 213%.
ويرفع التنافسية..
تواجه المؤسسات تحديات عظمى، ولاسيما في مواردها البشرية؛ ما يمثل إشكالية تجاه موضوع التنافسية، وهكذا اهتمت الإدارة في الكثير من الشركات العالمية المعاصرة بكوادرها الوظيفية كأحد الركائز، التي تكسبها ميزة تنافسية فرضتها الألفية الثالثة، التي تركز على اقتصاد المعرفة، نظراً لازدياد حدة المنافسة في الأسواق العالمية، حيث إنه مع الانفتاح العالمي والعولمة، باتت الموارد المالية وحتى التقنية متاحة للجميع، ولم يعد أحد قادراً على احتكارها؛ لذا ركزت المؤسسات على الاستثمار في مواردها البشرية.
لا تساعد على التطوير..
هل تساعد القوانين المرعية في البلاد على تطوير سوق التدريب..؟ سؤال يجيب عنه الحسن (متأسفاً): لا تساعد على هذا التطوير، وذلك لغياب المرونة في التعاطي مع التدريب كصناعة ومهنة، وغياب قانون ينظم أعمال التدريب وترخيص الشركات العاملة في هذه السوق، إضافة لضعف الرقابة على البرامج التدريبية، وعدم تقييم المخرجات؛ ما أدى لظهور (دكاكين) للتدريب بمسميات عالمية ودولية، ودون رقابة أو اعتراف من جهات ومرجعيات إقليمية ودولية، أو حتى محلية في بعض الأحيان..!
وهذه المشكلات..
يحد من فاعلية سوق التدريب عديد المشكلات، ويركز هاني الخوري، مدرب ومدير أحد المراكز النشطة، على بعضها كممارسة الجمعيات والجهات غير المرخصة لأنشطة التدريب، وأشكال المراكز وتجهيزاتها، وصعوبات النقل وتكاليفه عندما يتعلق الأمر بالعمل في مناطق متباعدة، وصعوبة وتشابك مرجعيات التدريب بين وزارات التربية والصناعة والسياحة والتنمية الإدارية وغيرها.. فضلاً عن اختلاف أسعار المنتجات التدريبية، وعدم تناسبها مع القوة الشرائية لطالبي التدريب، وانتشار الدورات المجانية المعززة بحقيبة أو منحة، وطبيعة الحقائب المتداولة حالياً، وارتفاع التكاليف قياساً بالعوائد؛ ما يجعلها ليست محل جدوى استثمارية..!
تدريب داخلي..
بالرغم من أن تطوير وتنمية الموارد البشرية عموماً، بات وبحكم الاختصاص، من مهام وزارة التنمية الإدارية، إلا أن هناك الكثير من الجهات التي تباشر أعمال التدريب لمنسوبيها بشكل مباشر، وعبر إحداث مراكز تدريب مختصة سواء على مستوى الوزارة أم بعض الجهات التابعة لها، ومن هذه الجهات.. هناك مراكز لدى وزارات الصناعة والسياحة والإعلام والتربية والمالية والنفط وقطاعي التأمين والبورصة وغيرها.. فيما تباشر غرف التجارة والصناعة والزراعة أنشطة تدريب الأعضاء بنفسها، وظل مركز التدريب في غرفة تجارة دمشق من أنشط مراكز القطاع الخاص، إلا أن دوره تراجع خلال الأزمة، في وقت تقدم فيه دور ندوة الأربعاء الاقتصادي، التي تقوم بدور تدريبي، إلى جانب دورها التعريفي، الذي يقوم على جمع الفعاليات العامة والخاصة مع رجال الأعمال وجهاً لوجه لمناقشة قضية مستجدة أو البحث في أخرى محل إشكال.
إلى ذلك..
في العرف العالمي ثمة محددات، إن لم نقل مسلمات، باتت محل اتفاق بين القائمين على الإدارة والإنتاج، منها للمثال لا للحصر: التدريب إحدى الصناعات المتطورة باستمرار.. التدريب مسار موازٍ وليس بديلاً عن التعليم، وإن كان يتقدم عليه بفارق 20 – 30 عاماً.. التعليم منهجي مدرسي (سكولاني)، بينما التدريب يلبي حاجات محددة، وينمي مهارة دون أخرى.. الإنفاق على التدريب مجدٍ إدارياً وإنتاجياً بدليل تحسن ونمو المنشآت، التي تزيد مثل هذا الإنفاق قياساً بنظيرتها التي لا تنفق، والأهم من ذلك كله، أن المنتج التدريبي غالباً ما يأتي استجابة لمتطلبات العمل وحلاً لمشكلاته.
أحمد العمار