ثقافةصحيفة البعث

لغز الجثة في جدار الحرم الجامعي في رواية “الصبية والليل”

القارئ مدعو دائماً مع غيوم ميسو ليصحبه برحلة تملأها اللفات والمؤامرات والعقد على التوالي، يعتقد القارئ أنه يملك بعضاً من قطع اللغز، إلا أنه يقف حائراً كيف سيربطها مع بعضها ليكتشف الحقيقة أو يحاول أن يخرج من هذا المأزق المعقد، يأتي هذا الكاتب الفرنسي الذي استطاع اكتساب شهرة واسعة أن يمسكك خيوط الحبكة في النهاية مذهولاً من قدرته على العبث بعقلك، تقف عاجزاً متسائلاً ماهذا الذي قرأته للتو؟ّ!

لم ينجح ميسو هذه المرة في إمتاعنا فقط برحلته إلى مدينته أنتيب الفرنسية من خلال روايته التي جاءت بعنوان “الصبية والليل”، إنما امتلكنا من بداية الرحلة انتقل بنا بين زمنين مختلفين، يفصل بينهما خمس وعشرون سنة، بين ليلة 19 كانون الأول 1992، ويوم 13 أيار 2017، خمس وعشرون سنة من التساؤل والحيرة والشعور بالندم والذنب، خمس وعشرون سنة أخفى فيها “توماس دو غاليه” وصديقه مكسيم سرهما في حائط الجمنازيوم في مدرستهما القديمة، لكنه مع الوقت يكتشف أن آخرين أيضاً لديهم ذكريات عن هذه الليلة العاصفة من كانون، وهي ذكريات لا تتوافق بالضرورة مع ما يعرفه هو.

لكل شخص ثلاث حيوات: حياة عامة وحياة خاصة وحياة سرية، وكان توماس على موعد مع تهديد بكشف أسرار سن 19 ولكنه يفاجأ بسيل من الاكتشافات الصاعقة عن كل من حوله ليعرف أنه في الكثير من الأحيان لا تحمل الحقيقة أي جمال أو طيبة، وأن الحكم على أقرب الناس قد يضللنا عن حقائق كالشمس، وأن سوء الفهم هو ما يرسم مصيرنا للأبد.

تدور أحداث الرواية في أجواء بوليسية غامضة، حيث يتورط توماس في جريمة قتل، يتهرب من ثقل الواقع إلى عالم الكتب، يمتهن حرفة الكتابة في محاولة منه لتجاوز فشله في التحكم بمجريات حياته، راح يبتكر عوالم خيالية مشرقة، يرى أنها قادرة على تغيير الواقع، وتصحيحه، بل وحتى نفيه. توماس روائي له شعبية كبيرة، لكن العديد من معجبيه لا يعرفون الشياطين التي يقاتلها منذ عام 1992، والأسرار التي كان يخبئها.

بعد خمسة وعشرين عاماً من مغادرته، يتم استدعاء توماس إلى مدرسته من أجل لم الشمل، قد يكون من الجيد أن يتم تجاهل هذه الدعوة، إلا أن توماس يعرف أن هذا الحدث قد يغير حياته بسبب الجثة التي أودعها مع صديقه في حائط الحرم الجامعي تحت وطأة عاصفة ثلجية، تدور القصة حول فينكا روكويل الجميلة وطباعها الغريبة والجريئة، الفتاة المعشوقة من توماس والتي سحرت كل المحيطين بها وكانت محط إعجاب الكثيرين وكسبت غيرة الكثيرين أيضاً، في تلك الليلة طلبت فينكا من صديقها توماس أن يحضر إلى غرفتها ليفاجأ بانهيارها وحزنها الشديد ممسكة بيدها اختبار حمل وتقول له أن ألكسيس قد أجبرها على ذلك، يخرج توماس مسرعاً غير قادر على التفكير يذهب إلى الأستاذ الذي يعتقد أنه غرر بطالبته، وهناك يرتكب الجريمة مع صديقه الذي يلحق به، وبعد هذه الليلة تختفي أيضاً فينكا وتنتشر الشائعات منذ ذلك الحين، فاعتقد الكثيرون أن فينكا هربت مع أحد أساتذتها ألكسيس كليمان الذي كانت على علاقة غرامية معه، لكن بعض الشخصيات تعرف أن هذا ليس هو الحال بسبب تصرفاتهم في تلك الليلة. سرد القصة في الغالب كان من وجهة نظر توماس وفي فترات زمنية مختلفة ولكن في بعض الأحيان نتعرف على شخص آخر يضيف بعداً آخر لما يحدث ويساعد أيضاً في إبقاء اللغز على قيد الحياة.

ابتعد غيوم في هذه الرواية عن الرومانسية التي كانت تطغى على رواياته السابقة، ركز على الشخصيات التي بناها بشكل جيد، ابتعد عن المثالية فقدم أبطال روايته على حقيقتها بامتلاكها الخصال الجيدة والعالم الداخلي الأسود في معظم الأحيان، استطاع ميسو أن يجعل القارئ يقف في صف القاتل يتعاطف معه على الرغم من الأشياء الفظيعة التي ارتبكها.

في الجزء الأخير من الرواية يبدو أن غيوم ميسو لم يكتف بكمية التشويق والإثارة التي أعطاها للقارئ، بل أعطاه لغزاً آخر من خلال التنويه الذي أورده في نهاية الكتاب حيث أكد على التشابه الكبير بينه وبين بطل الرواية من حيث أنه فرنسي الأصل عاش فترة طويلة في أمريكا وكتب روايات عنها، ثم عاد إلى بلدته الأم أنتيب الفرنسية والتي تدور حولها أحداث الرواية، وتشاركا نفس الميلاد، وعلى رغم المقاربات كلها تبقى الرواية من نسج الخيال المحض، والراوي لا يمت للكاتب بصلة بتاتاً، فما عاشه توماس في صفحات الرواية ليس مستوحى من واقع معين، صحيح أن طريق “لاسوكيت”، وصحيفة نيس-ماتان، ومقهى الأركاد، ومستشفى لافونتون، أماكن موجودة فعلياً في أنتيب إلا أنه غيرت المعالم بما يخدم الكتاب فمدرسة توماس والليسيه، والأساتذة والأقارب والأصدقاء كلهم مختلقون، ويكمل الكاتب “وأنا أقسم إنني لم أضع جثة في جدار الجمنازيوم”.

علا أحمد