أخبارصحيفة البعث

الفريق الآخر وأسلوب عرقلة لجنة الدستور

الدكتور نجـم الأحمـد- أستاذ القانون العام في جامعة دمشق

تعرضت الجمهورية العربية السورية إلى موجات من العمليات الإرهابية المنظّمة دولياً خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، لكن الأخطر هو ما تتعرّض له اليوم ومنذ تسع سنوات خلت من أعمال إرهابية طالت جميع أراضيها تقريباً، ومن تنظيمات إرهابية تعددت مسمياتها وأهدافها حتى بلغت العشرات، ولا تكاد واحدة من هذه المنظّمات تعمل بمفردها، وإنما كل منها مرتبط بدولة، أو بتنظيم دولي خارجي، ويلقى شتى أنواع الدعم السياسي والاقتصادي والاستخباراتي بما يحقق أهداف الدولة الداعمة.
وإذا كان الإرهاب بمفهومه الشامل ليس بظاهرة جديدة، ولا تعكس واقعاً قانونياً مجرّداً، وإنما بات لهذه الظاهرة أبعادها السياسية والاجتماعية أيضاً، ويمكن القول أيضاً إن الإرهاب بات واجهة رئيسة في العالم تهدد السلم والأمن الدوليين، والأخطر ما رافق انتشاره من محاولات لربطه بالإسلام، أو برقعة جغرافية محددة، أو كنتيجة لما سمّي “صراع الحضارات”، أو الربط بينه وبين تحقيق مصالح آنية محدودة لمن يقدمون على ارتكاب الجرائم الإرهابية.
ودونما شك فإن مواجهة الإرهاب توجب التعامل مع العديد من التحديات التي تمليها متطلّبات مبدأ المشروعية القانونية، فضلاً عن متطلّبات الديموقراطية، وحماية حقوق الإنسان، والنقطة الأكثر أهميةً هي احترام قيم العدالة والإنصاف.
وإذ كانت لجنة الدستور السوري التي عقدت أولى اجتماعاتها قد جاءت بعد معاناة الشعب السوري المريرة مع الإرهاب عبر سنوات خلت، مع وجوب الأخذ في الحسبان أن هذه المسألة قد تكون خطوة مهمة فيما إذا أحسن استثمارها في طريق حل سياسي شامل يلزم تزامنه وإلحاقه بخطوات عديدة أخرى، إلا أن هذه المسألة ليست في مقدمة الأولويات التي كان يجب التصدّي لها، حتى وإن كانت في ترتيب العمل قد جاءت في المقدمة، لأن سورية لم تعان يوماً من فراغ دستوري أو قانوني، ولم تتوقف أي من سلطاتها العامة، أو مرافقها، عن السير الدائم والمنتظم في أي وقت من الأوقات، فضلاً عن أن أي مجهود لن يؤتي الثمار المرجوة طالما الإرهاب لا يزال قائماً، وطالما أن جزءاً من أرض الدولة تستبيحه قوى همجية تفعل ما تفعل بالمخالفة لكل المعايير والقيم والأخلاق، وبما يناقض القانون الدولي بمصادره المختلفة، وفي مقدمتها المعاهدات والأعراف الدولية.
ومما يجب ألّا يغربن عن الذاكرة أيضاً أن الدعوة إلى وضع دستور جديد للبلاد يأخذ في الحسبان التطورات السياسية اللازمة كان مطلب الحكومة السورية الذي عملت عليه منذ عام 2011، وقد دعت أطياف الشعب السوري كافة إلى المشاركة الفعالة في ذلك، ولكن الفريق الآخر الذي كان ينتظر سقوط الدولة لم يكن لهذا الأمر أهمية لديه، فقاطع لجنة الدستور السوري عام 2012، ودعا الشعب السوري إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور، وإن كانت مقاطعته، أو ما تمت الدعوة إليه لم يكن له تأثير لدى الشعب السوري الذي أيّد دستور البلاد بأغلبية كبيرة.
لقد تبدّى بما لا يدع مجالاً للشك، بل الأصح أن الممارسات التي سبقت وواكبت لجنة الدستور قبل انعقادها بكثير، وقبيل هذا الانعقاد، وخلال جولتين فقط، أن الفريق الآخر جاء محمّلاً بالأفكار ذاتها التي طالما رددها خلال سنوات الأزمة، وهذا أمر لا يمكننا تصوّر غيره ممن أسهم في خراب البلاد ودمارها، وفي قتل شعبها على يد مرتزقة جرى استقدامهم من أصقاع الأرض قاطبة، ومن أبى إلا أن يحمل علماً غير علم بلاده، ويرتبط بكل الحكومات إلا حكومة بلاده، ويقبل التمويل من أي كان، ولا ضير عنده في التواصل مع أعداد البلاد، ولا مشكلة عنده في تقسيم دولته، أو نهب ثرواتها، من لا يرى في المحتل محتلاً، ولا الإرهاب إرهاباً، ولا العدو عدواً… من السذاجة أن نعتقد -ولو لوهلة- أن هؤلاء جاؤوا محمّلين بما يخالف تلك المعطيات، أو للبحث عمّا فيه خير الشعب السوري، أو خير الوطن.
لقد أثبتت الوقائع أن هذا الفريق جاء محمّلاً بأجندات عجز ومن دعمه عن أن ينالها بقوة السلاح، ما دفع الشعب السوري بالتضحية بخيرة أبنائه وهم في زهوة الشباب، وعانى المواطن ما عانى من هول الإرهاب وويلاته، فدمرت المدن، وتم قتل النساء والشيوخ والأطفال، وتحوّلت المدارس إلى متاريس حربية، ودمّرت البنى التحتية، وما من مواطن على أرض الوطن إلا وعانى ويعاني من حصار خانق طال أبسط مقوّمات الحياة، بما في ذلك الدواء وحليب الأطفال… كل ذلك ما كان المواطن ليطيق به صبراً لولا أنه كان رافضاً منذ البداية النيل من وجوده، وقيمه، والثوابت التي حارب من أجلها منذ فجر الاستقلال… ولكن حتى أبسط البديهيات التي لا يختلف عليها عاقلان، ومثال ما نعني نبذ العنف والإرهاب، نبذ الفوضى والاحتلال، ورفض الخراب والتدمير… نقول حتى أبسط هذه الأمور كانت موضع رفض من قبل الفريق الآخر، وبعد هذا لنا أن نتساءل لما يجتمع هؤلاء، وما الذي يبغون الحصول عليه، ماذا يريدون، وإلام يهدفون؟.
نظرة بسيطة إلى مجريات عمل لجنة الدستور تظهر بشكل جلي أن الفريق الآخر لا يملك من استقلالية العمل شيئاً بدلالة التخبّط في التصريحات حتى قبل أن تعقد الجلسة الأولى، إذ ما لبث هذا الفريق يعلن أن لديه مسودة جاهزة لمشروع الدستور الذي يريدون، وفي الوقت ذاته فإنهم لا يقبلون أي مسودة تعرض عليهم من جهة أخرى. وفي اليوم التالي جرى التراجع عن تصريح الأمس، ثم ما لبث البعض منهم يحاول النيل ممن في عضوية الفريق الوطني بأي شكل من الأشكال، فجرى اتهام أحد أعضاء هذا الفريق أنه وقبل خمسة وثلاثين عاماً وجّه صفعة إلى أحد الأشخاص الذين يحسبون أنفسهم من ضمن المعارضة، وأنه لأجل هذا السبب فلا بد من حثّ الدول الأوروبية على اتخاذ ما يلزم بحق عضو الفريق الوطني، والعمل على إلقاء القبض عليه، ومحاكمته، وبالتالي منعه من دخول الأراضي الأوروبية مجدداً. مع الإشارة ههنا إلى نقطة قانونية هي غاية في الأهمية، وهي أنه على فرض أن الجرم المدعى به لم يكن “صفعة”، بل كان أشد من ذلك بكثير، بل حتى وإن كان جرم القتل العمد ذاته، فإنه ووفقاً لسائر قوانين دول العالم المتقدم والنامي على السواء، فإن الجرم ساقط بمضي المدة، وهاهم يتهمون أحد أعضاء من الفريق الوطني بداعي أن الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات بحقه، لأن له نشاطاً تجارياً في بلاده، نشاط لم يكن على هوى الولايات المتحدة وإرادتها، لذلك ارتأت عقابه جراء ما ارتكبت يداه، وهنا أيضاً نقول إذا كان الأمر كذلك، فحري التذكير أن هذا العضو لم يعاقب وحده، بل إن الشعب السوري بأكمله معاقب اقتصادياً منذ سنوات حتى بالنسبة إلى أبسط مقوّمات الحياة، وعليه لن نجد مواطناً سورياً واحداً خارج إطار العقوبات غير المشروعة التي طالت السوريين جميعاً.
كل هذا يأتي في وقت تناسى فيه أعضاء الفريق الآخر، أو لنكن منصفين، تناسى الغالبية منهم سجلاتهم غير المشرفة التي تشهد بها أروقة القضاء السوري، ولكي تكون الحقيقة ماثلة بشكل أكبر حري القول إن معظم الملاحقات القضائية لم تكن بسبب الظروف التي مرّت بها الدولة منذ عام 2011، وما ارتكبه البعض من هؤلاء من جرائم تصل إلى الخيانة والمؤامرة، بل هناك العديد من الملاحقات التي كانت قبل ذلك بكثير من جرائم تتصل بأمن الدولة، والتآمر عليها، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، والجرائم الاقتصادية والمالية… وعلى الرغم من ذلك لم تقل الحكومة السورية أنها ستلاحق هؤلاء فيما لو عاد أي منهم إلى البلاد، بل العكس تماماً هو الذي حدث، ففي بادرة حسن نية، وفي سبيل إنجاح عمل اللجنة، عكفت الدولة على إيقاف الملاحقات القضائية والقانونية بحق أي من أعضاء لجنة الدستور، وقد حدث بالفعل أن عاد البعض ولم تتخذ الدولة أي إجراء في مواجهته.
وفي سياق متصل، وبما يدلل بشكل حاسم، على أن الفريق الآخر لن يشارك في إطار من المصلحة الوطنية، ولن يكون مستقلاً فيما يبدي من آراء أو طروحات، بل عليه العمل وفقاً لما يملى عليه، وسيدفع الثمن فيما لو أبدى رأياً لا يروق لمشغلي الفريق، وإلّا كيف نفسّر فصل أحد أعضاء اللجنة الدستورية لمجرد إبداء الرأي في أنه “ليس هناك ما يمنع من أن تعقد اللجنة اجتماعها في دمشق”، ترى ماذا لو أن ذلك العضو قد دعا إلى عقد اجتماعات اللجنة في الرياض أو الدوحة أو أنقرة، بكل تأكيد ما كان سيلقى هذا العقاب، وما كان ليلقاه لو أن دعوته كانت موجهة إلى عقد الاجتماعات في (تل أبيب).
وإذا كانت مجرّد الدعوة هي جرم لا يغتفر، فكيف سيتمكن هؤلاء من الخوض في تفصيلات العمل الدستوري؟ كيف لهم التصدّي إلى موضوعات هي غاية في الدقة والصعوبة والحساسية؟ وما الفائدة في أن يتم التفاوض مع هؤلاء بالوكالة عن غيرهم؟ أوليس الأجدى التفاوض مباشرة مع من يقوم بتشغيلهم، ويصدر الأوامر إليهم؟.
كان من المقرر عقد الجلسة الثانية من اجتماعات لجنة الدستور، ومن الطبيعي أن الاجتماعات لا تبنى على الارتجال، ولا على الأقوال المرسلة، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون لها جدول أعمال تنطلق من خلاله، تناقشه، وتتحاور فيه، فليست الغاية هي الاجتماع لأجل الاجتماع، وإنما الاجتماع لأجل العمل، والسير قدماً نحو الأمام، من دون أن يعني ذلك على الإطلاق أنه مطلوب من الفريق الآخر الموافقة على ما يتم عرضه من دون نقاش أو حوار، بل المراد هو العكس من ذلك تماماً، وهو أن تأخذ كل نقطة حقها، حتى يتمكّن من يطرحها في أن يقنع الآخرين بجدواها، فتتم الموافقة عليها، أو أن يفشل في ذلك، فيكون مصيرها الرفض وعدم القبول، أما أن يتم رفض أي ورقة عمل، ورفض أي رؤية، أو طرح، حتى قبل انعقاد الاجتماع، بما يوحي بشكل قاطع أن الأمر في البداية والنهاية هو عرقلة الاجتماع في مجمله.
وبدلاً من حمل الفريق الآخر على تحمّل مسؤولياته، وإلى العمل بروح وطنية منفتحة، نجد أن هناك من يتدخل بشكل سافر وغير قانوني ليلقي باللائمة على الدولة، فيتهمها على أنها هي من يعرقل عمل اللجنة، وعلى أي حال فمثل هذا الأمر لم يكن مفاجأة بالنسبة إلينا، وكل ما فيه أنه أماط اللثام عن جزء من الحقيقة لجهة من يتحكّم في عمل الفريق الآخر، ومن الذي لا يريد الخير لسورية وشعبها، ومن يريد أوار الحرب مستعرة على الدوام.
ورغم كل الذي سبق، فإننا ندعو الفريق الآخر إلى مراجعة العقل قليلاً، والعمل على استثمار فرصة تاريخية علّها تمكنهم من التكفير عن عديد الأخطاء التي وقعوا فيها في الماضي، ندعوهم إلى العمل بروح من المصلحة العامة لأجل وطن طالما كانوا أدوات بيد الغير لتخريبه وتدميره، فالفرصة سانحة الآن، وليتذكر الجميع على الدوام أن التاريخ لن يرحم أحداً كان بيديه شيء من الأمل، شيء من الحل، إلّا أنه أبى الانكفاء على نفسه، وأن يظل أداة بيد الغير يحركها كيفما شاء، وأنّى شاء.
دمشق في 4/12/2019