ثقافةصحيفة البعث

حلب الشهباء.. هنيئاً لأبنائك هذه الصفحات الناصعة من الصمود والمقاومة

حلب – البعث

 

لم يكن يوماً كباقي الأيام، يوم طلّ النصر على هذي المدينة التي أثخنتها الجراح.. هذي المدينة التي لم تكن إلا دفئاً لأبنائها، تحيطهم بمواويل الحب والعشق والغرام، تنثر أنغامها قصائد من وله، فتغني قدوداً وموشحات. وكان النصر يطلّ من خلف التلال، يزرع وردة هنا ووردة هناك، يعانق الأطفال الذين سُلبت منهم ألعابهم، ويبلسم جراح الذين أنهكتهم الحرب. كم تعبت أجسادهم وأرواحهم من ضجيج الموت وفوضاه، من عبثيته التي لم تدع أحداً يدرك أين المسير، وإلى أين المصير! وكانت الأسئلة تتوالى وصدى الأرواح ينتشر في كل الأمكنة، يلوذ مرة بالصمت ومرة بالبكاء. كم عانى أهل هذه المدينة وكم تمنوا إطلالة صبحٍ ليس كباقي الصباحات! كانت أحلام الشباب تئن تحت أزيز الرصاص، تبكي أياماً مضت كانت فيها الحياة في إشراق وحبور، أين يذهب الشباب بأحلامه التي بنى لها تلالاً من تعب؟! أين تذهب الأمهات بفلذة أكبادهن وهن يرين الخطر كامناً في كل الجهات؟! كم ليلة لم ينمن فيها، تأخذهن الأفكار كأمواج بحرٍ، وبين مدّ وجزر يغمضن أجفانهن في محاولة بائسة للخوض في غمار الأحلام الهانئة.
الجوع والعطش ودويّ الانفجارات التي كانت زلازل تهتز لها الأرض. كانت الجراح غائرة في عمق التاريخ والخيانة، أفراد معصوبو الجباه ينثرون حقدهم وسواد قلوبهم، يقبضون الثمن الذي يدفعه الملايين: تشتت جرحِها، انتشار المخيمات والخيام، وما من نارٍ تشعل الأخضرَ واليابس سوى نارٍ تسري في أصابع المدافعين عن البلاد، في الرصاص الذي يحملونه حباً بتلك البلاد، في قصائد العشق التي يكتبونها ملاحم يسطرها التاريخ.
وأطلّ ذاك الصباح الذي نادت فيه الأرض والسماء: لقد انتصرت حلب.. وكانت الزغاريد تملأ الفضاء، صداها يشقّ أرواح أولئك الذين جرّوا ذيول خيبتهم وإرهابهم ومضوا، فصمود المدينة أعطاهم درساً لن ينسوه، فكيف لحلب أن تدع الغزاة يأمنون بين جدرانها، ستذيقهم الويلات ولن تدعهم يقرّون عيناً بسقوطها. إن المدن الصامدة لاتسقط في أيدي الغرباء.. لقد علّمتهم حلب أن الرجال لا يدعون مدينتهم لقمة سائغة في فم أعدائها، فلن يتركوها لمصير قاتم أسود مجهول، لن يتركوها لرايات سوداء لا دين لها ولا إله.. إن آلهة المدينة عصفت بهم خارج أسوارها فلا مكان للسواد بين جدرانها.

ولن ننسى
تتذكر صور الشهداء الذين حُملوا على الأكتاف وزغرد الرصاص لأجسادهم المسجّاة. وكنت حينها تنادي بملء صوتك: أواه يا وطن، ألم ترتوِ بعد دماءً وأجساداً؟! هل تحوّلتَ إلى لحن نينوى؟!
أنى نظرت في طرقات هذا الوطن ترى مقابر للشهداء، أنى جِلْت بنظرك تجد صوراً لشبابٍ ببزّاتهم العسكرية وبنادقهم.. على وجوههم ابتساماتٌ لها ألفُ معنى ومعنى، كأنهم أرادوا تثبيتَ اللحظة عند تلك الابتسامات، ليدللوا للناظر بأنهم متفائلون ومؤمنون بالنصر المحقق، وربما كانوا يحدسون بأن صورَهم تلك ستكون يوماً على جدران قرى البحر، فكانت صوراً بكامل اللياقة العسكرية.
حين تصل بيت الشهيد ترى شجيرات الغاردينيا التي امتدّت أمامها على مصاطبَ من عشق وانتماء. وحين ترى امرأة لفّتها التجاعيد، ستدرك أنها هي أمّ الشهيد. تلك العينان الجامدتان هما عينا أم، ولكن دموعاً ساخنة لابد من أن تنهمر عند أي سؤال، يختنق الصوتُ في حنجرة الأم، وتغرورق عيناها بالدموع، وتردف: “الله كبير”! تسمع صدى صوتها يتردد في البراري والوديان، يجوب كل الطرقات والصور، يخرج من أعماق الأشجار المزروعة على مدّ البحر، ويذهب باتجاه مقابر الشهداء؛ ليرشّهم بعطر الحبق والنعناع والكاردينيا، تنتعش الأجساد المقدمة على مذبح الوطن، أما الأرواح فكانت هائمة في كل تلك الفضاءات، تحوم وتحوم وهي تنتظر خلاصاً لهذا الوطن المصلوب على دماء أبنائه.
ولن تنسى قصة جندي جريح راح يحدثك عن حالته: لم أجد نفسي إلا تحت الأنقاض عدا ما ظللته طاولة حمت رأسي من أن تلحق ببقية جسمي، حاولت تحريك يديّ ورجليّ فلم أفلح، كأن اسمنتاً صبّ على كاهلي. حصل هذا بعد أن تقدّمنا في هجومنا على أولئك الأوغاد الذين يفجّرون كل شيء.. ولم أسمع في الثواني الأخيرة إلا صوت قذيفة تخترق البناء الذي احتمينا بجدرانه الخارجية.. لحظات ويتغير كل شيء. جسدٌ يابس لا قدرة لي على تحريكه، ورأس أصبح خارج العالم. في تلك اللحظة لم يبق إله أو نبي أو قديس أو مزار أو كنيسة إلا وذكرتهم في صلاتي للنجاة من هذا الغرق الإسمنتي.. لحظات يصعب عليّ الآن تذكّر أوجاعها، فتأثيرها ترونه الآن على مفاصلي وساعديّ، لكني في تلك البئر الإسمنتية لم أستطع أن أمنع خيالي من السفر إلى تلك المرأة التي كانت تعجن الخبز على قارعة الطريق، أو أن أمنع ذاكرتي من تذكّر رائحة تلك الأرغفة التي كانت تخبزها أمي.
ماذا تتذكر وأنت تحتفل بذكرى انتصار؟! تتذكر حين لفتت نظرك مفاتيح بيتك الملقاة على الطاولة كجريح، كجثة هامدة، لا قرقعة تصدر منها، فأين قفل باب بيتك ليتهيأ المفتاح؟! تتذكر الباب والنوافذ وكلّ قطعة كانت ترسل ذبذباتها إليك نوراً وسكنى، كل وردة كنت تزرعها في صدر بيتك، صور من ذاكرتك تعبر يومك لتفجّر أحاسيسك. تغضب، تبكي. روحك التي تركتها في بيتك تهدّئ من روعك.. تتذكر أولئك الذين خرجوا زرافات ووحدانا وطالتهم رصاصات الجنون على الطرقات، وآخرون عادوا كما لم يخرجوا من المدينة. والخروج لا يستحقه إلا من دخلها غازياً على رايات علم أسود. تصرخ: ألا سحقاً لهذا اللون، لا يليق اللون الأسود بالمدن، بل يليق بها البياض في كل حي وشارع وقلعة.
وها هي المدينة اليوم تحتفل بالذكرى الثالثة لانتصارها، تستعيد ذكرياتها المؤلمة، ولكنها تنظر بعين الأمل والتفاؤل بغد مشرق.. عانت هذه المدينة ما لم تعان مدينة في هذا العالم، وخلعت عن جسدها ثوب الحزن لترتدي حلّة البهاء، تمضي في إعادة إعمارها ركناً ركناً وشارعاً فشارعاً وبناء فبناء، ومن يبني ما تهدّم منها إلا أيدي أبنائها بكثير من حب وعشق لهذه الحجارة البيضاء التي بنيت وتبنى منها حلب! حلب يامدينة النصر! يا مدينة الصلاة والسلام! انثري ورودك في طرقات مستقبلك، فماضيك كان صفحة ناصعة في تاريخ البلاد، صمدت كما لم تصمد قلاع، فهنيئاً لك بنصر عزيز، وهنيئاً لأبنائك هذه الصفحات الناصعة من الصمود والمقاومة.