ثقافةصحيفة البعث

بسبب جيرانه.. أُرسل أعظم الرسامين إلى مصحة عقلية

 

تتضمن رسومه بعضاً من أكثر القطع شهرة وشعبية وأغلاها سعراً في العالم، وهو صاحب قول “الحب أبدي، وقد يتغير مظهره، لكن جوهره لا يتغير”، وأحد أهم عباقرة الرسم الذين عرفهم التاريخ. قدم الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ خلال مسيرته الحافلة أكثر من 1500 لوحة فنية بلغ سعر بعضها أرقاماً خيالية خلال الفترة المعاصرة، فقد كان فناناً عظيماً، لكنه في الوقت ذاته شديد الحساسية، يضع اعتباراتٍ كثيرة لما يعتقده الناس عنه، “كيف أبدو في عيونِ معظم الناس؟”، كان هذا سؤاله الوجوديُّ الأكبر، وعلى الرغم من معرفته السابقة بما يعتقده الناس عنه، شخص نكرة، كريه، مزعج، غريب الأطوار، وفي بعض الأحيان ينعتونه بالجنون، إلا أنه سعى جاهداً، وعمل ليل نهار، حتى يغيّر تلك النظرة القاتمة عنه، إلا أن هذا تحديداً هو ما دفعه في النهاية إلى حافة الانتحار.

حالة اضطراب
على الرغم من هذا النجاح المذهل الذي عرفه بالفترة الراهنة، مرّ فنسنت فان غوخ أثناء حياته بالعديد من الصعاب ففشل في بيع لوحاته وعانى من مشاكل واضطرابات نفسية تراوحت بين الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب واضطر لدخول المصحة العقلية لأكثر من مرة ولجأ لشرب كميات من الملون الأصفر إيماناً منه بقدرة هذا اللون الزاهي على إدخال السعادة على عالمه الداخلي الكئيب وقد جاء كل ذلك قبل أن يقدم الأخير على وضع حد لحياته أواخر شهر تموز 1890.
إضافة لمشاكله النفسية، عانى الرسام الهولندي من التصرفات القاسية للمحيطين به الذين اتجه بعضهم لاعتباره خطراً على المجتمع وطالبوا بترحيله، وتعود أطوار هذه القصة لمطلع العام 1889، فبعد مضي فترة وجيزة على حادثة قطعه لأذنه، قدّم عدد من أهالي الحي الذي أقام به فنسنت فان غوخ بمدينة آرل (Arles) الفرنسية عريضة طالبوا من خلالها السلطات باتخاذ إجراءات ضد الرسام الهولندي. وعلى حسب العديد من المصادر، وقّعت هذه العريضة من طرف 30 شخصاً وأرسلت نحو عمدة المدينة السيد تارديو (Tardieu) وقد طالب الأهالي من خلالها بطرد فنسنت فان غوخ وإرساله لعائلته أو الزج به داخل مصحة عقلية مؤكدين أن تصرفات الأخير مقلقة وخطرة. كما وصف الموقعون حينها فان غوخ بالمجنون الأشقر وتحدّثوا عن معاناته مع الكحول وعدم قدرته على التحكم في أفعاله، وإضافة لكره جيرانه له، تعرّض فان غوخ لمضايقات من أطفال حيّه حيث عمد هؤلاء لقذفه بالخضر وعمد بعضهم لتسلق نافذته للسخرية منه. ومن دون علم فنسنت فان غوخ، وقّع أفراد عائلة جينو بدعوة من رئيس قسم الشرطة نقل فنسنت فان غوخ نحو طبيب نفسي أكد تدهور المدارك العقلية للرسام الهولندي وطالب بإرساله نحو مصحة عقلية يوم 7 شباط 1889.

غوخ الأديب
كان فان غوخ يرسم كلّ نهار، من الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، أما أمسياته فكان يقضيها في الكتابة لأخيه، فأنتج أكثر من 900 رسالة لا تقل في بلاغتها عن تلك الرسائل التي تبادلها وأرسلها كبار الأدباء، فأرخ لحياته بنفسه، ونقل عبر حروفه هلاوسه ومرضه وأحلام يقظته، كما أنتج خلال 9 سنوات فقط، هي التي قام فيها بالرسم، ما يقارب 1700 لوحة، وثقت انفعالاته، ورحلته في الحياة، من الجنون والكآبة، وحتَّى الانتحار. راسل فان غوخ خلال الفترة التي وقع الجيران على العريضة شقيقه ثيو، وعبّر له من خلال بعض الكلمات عن غضبه وحزنه العميق من تكتل الجميع عليه بالمدينة واصفاً إياهم بالجبناء لمهاجمتهم لرجل أعزل ومريض، كما تحدّث أيضاً عن دور عمدة المدينة في الزج به بمصحة الأمراض النفسية ورضوخه للضغوط أملاً في الحفاظ على أصوات الناخبين.
الموت
كان فنسنت قد خرج أخيراً من مصحَّته، وأراد أن ينعم ببعض الهدوء في قرية أوفير شيرواز الفرنسية، فقضى فيها 70 يوماً، انتهت بانتحاره، ولكنها كانت الأكثر غزارة في إنتاجه الفني؛ إذ أنهى أكثر من 75 لوحة مرسومة بالفرشاة والألوان السائلة، هذا إلى جانب 100 لوحة بالقلم أو الفحم، إلا أنه وفي تلك الفترة القصيرة انتابته نوبات قلق وفزع، وتضخمت وحدته، وازدادت قناعته بأن حياته ما هي إلا فشل، خاصة وهو لم يبع خلال حياته سوى لوحة واحدة، وأخوه ثيو كان هو من يتحمل مصروفات رسومه ولوحاته وعلاجه أيضاً، وتوفي فنسنت فان غوخ بين ذراعي أخيه في 29 تموز 1890، وكان عمره 37 عاماً.
جُمان بركات