دراساتصحيفة البعث

اللجوء للاغتيالات.. سياسة عبثية لا جدوى منها

د. معن منيف سليمان

لجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سياسة الاغتيالات والاستهداف كإستراتيجية جديدة تقوم على مبدأ إجبار الإيرانيين على العودة إلى طاولة المفاوضات من أجل الحصول على اتفاق جديد يخدم اسرائيل بشكل أفضل. إن هذه السياسة تشير إلى تنامي يأس ترامب بسبب النكسات المتتالية لإدارته في الملفات الخارجية، ولاسيما قضايا الشرق الأوسط، إلا أن هذا العمل الذي عدّ سابقة خطيرة على مستوى السياسة الدولية قد سبّب مجموعة من الإخفاقات عندما أصبح من الواضح أن اللجوء للاغتيالات سياسة عبثية أتت بمردود عكسي، ذلك أن الرئيس ترامب ورّط نفسه في أزمة أخرى خطيرة لا جدوى منها ولا طائل مع إيران، فرضت مرحلة جديدة وتداعيات مرتقبة تحتّم على المحتل الأمريكي الانكفاء والانسحاب القسري من المنطقة.

فتحت عملية الاغتيال التي نفّذها في بغداد الجيش الأمريكي بأمر من الرئيس دونالد ترامب بحق قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ومعاون قائد “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، فضلاً عن ضباط وعناصر من الحرس الثوري و”الحشد”، فجر الجمعة 3 كانون الثاني 2020، ملف الاغتيالات السياسية التي تنفذها الولايات المتحدة بحق شخصيات بارزة في العالم، بسبب انتهاجها سياسة معادية لواشنطن وحلفائها الإقليميين.

وكان الرئيس الأمريكي جيرالد فورد قد أصدر قراراً في عام 1976/ رقم 11905/ يمنع الاغتيالات السياسية بعد الفضائح المتكرّرة حول عمليات (السي آي ايه) التي وثّقتها لجان حكومية. غير أن الرئيس جورج بوش الابن ألغى هذا القرار بعد هجمات 11 أيلول 2001، وأصبح الرئيس هو الذي يأمر باغتيال شخصيات عالمية، سراً أو علناً، ما يعني أن معظم الاغتيالات التي تنفّذ منذ ذلك الحين، من قبل الجيش أو من قبل أجهزة أخرى، تنفّذ بأمر من الرئيس الأمريكي مباشرة. وبناءً عليه وضعت الرئاسة الأمريكية لائحة اغتيال لشخصيات عالمية تقف في وجه النفوذ الأمريكي في العالم.

إن سياسة الضغط في حدوده القصوى على طهران هي الإستراتيجية المعتمدة من قبل الرئيس ترامب، وتهدف هذه السياسة إلى إجبار إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات من أجل الحصول على اتفاق أفضل يأخذ في الحسبان ليس طموحات إيران النووية فقط، وإنما برنامجها الصاروخي، وسلوكها الإقليمي أيضاً. إنه يتبع سياسة صعبة، تقوم على ممارسة الكثير من الضغط بحيث تشعر إيران أن ليس لديها خيار سوى العودة إلى طاولة المفاوضات، والحصول على صفقة أفضل، ولكنه ليس ضغطاً شديداً بحيث تعتقد إيران أنه لا توجد أية فرصة لأن تقوم الولايات المتحدة فعلياً بالانضمام إلى صفقة أو بإبرام صفقة يمكن أن تكون مقبولة بالنسبة للجانب الإيراني. وبينما يمكن أن يلاحظ العصا في الهجوم على موكب سليماني، يلاحظ الجزرة حين يقول الرئيس ترامب: “انظروا لا أريد شنّ حرب على إيران”. إنه يحاول أن يترك الاحتمالات مفتوحة، ويوحي بأنه لا يرى أن الصراع غير المحدود طريق للبناء.

من الواضح أن سياسة “الضغط القصوى” على الاقتصاد الإيراني لم تجلب طهران عنوة إلى طاولة المفاوضات، كما كان يطمح ترامب، وربما تريد واشنطن تحريك العملية السياسية عبر تصعيد محسوب مع إيران.

إن ترامب يستعد للانتخابات الرئاسية في الوقت الذي يواجه انتقادات شديدة وملاحقة برلمانية قد تفضي إلى عزله، إضافة إلى النكسات المتتالية لإدارته في الملفات الخارجية سواء في موضوع الصين أو روسيا أو شبه جزيرة القرم أو كوريا الديمقراطية أو سورية وقضايا الشرق الأوسط، فربما كانت هذه العملية لجرف الرأي العام الأمريكي إلى مواضيع أخرى، ويبدو أن كلّ رئيس أمريكي يريد تجديد ولايته يقوم بشنّ حرب في مكان ما، الأمر الذي يجعله يبدو زعيماً قوياً بالنسبة لمؤيديه.

قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إن اغتيال الفريق قاسم سليماني جاء في  إطار إستراتيجية أوسع لبلاده ضد خصومها. بومبيو رأى أن ردع التحديات التي يمثلّها خصوم الولايات المتحدة ينطبق أيضاً على الصين وروسيا. والرئيس ترامب حالياً بأمسّ الحاجة إلى تلميع صورته بعد تقديمه للمحاكمة بسبب إساءة استخدام سلطاته، والتحضير للانتخابات القادمة، من خلال التصفية العنيفة لحسابات أمريكا مع الخصوم السياسيين في الخارج دون حتى الرجوع إلى المؤسسات الدستورية والقضائية في أمريكا.

إن اغتيال الفريق قاسم سليماني يُعدّ علامةً واضحة على وجود تصعيدٍ في سياسة الاغتيال والاستهداف الأمريكية. كما أن هذا العمل يُعدّ سابقةً خطيرة على مستوى السياسة الدولية. وكانت العادة قبل الألفية الثانية وهجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم على إخفاء الجهة المسؤولة عن الاغتيال، وكما حصل مراراً في البلدان الأفريقية والأمريكية الجنوبية، تتمّ عملية الاغتيال أو محاولة الاغتيال باستخدام أدوات محلية، للتستر على الجهة المموّلة والمدبّرة للاغتيال. ولكن بعد هذا التاريخ، أصبح الاغتيال السياسي لشخصيات أجنبية، لدى الولايات المتحدة من اختصاص الجيش وفروعه في العالم، بحجة محاربة ما تسميه الدوائر الغربية “إرهاباً”.

يلجأ الغربيون والصهاينة إلى هذا الأسلوب بسبب ضعفهم، رغم إمكانياتهم الاستخباراتية والأمنية العالية، غير أنهم لا يثقون بقدرتهم على تطويع الشعوب باستخدام إعلامهم واقتصادهم ودعاياتهم الكاذبة وحروبهم الدموية. فيعتقدون أن اغتيال القادة والمسؤولين قد يربك الشعوب والتنظيمات الثورية ويغيّر سياستها.

إن الدول والكيانات الإرهابية تنفذ الاغتيالات لكسب معارك انتخابية والتخلّص من أزماتها الداخلية، بحيث تصبح الشعوب المناهضة لها وقيادتها ساحة للتنافس الانتخابي على حساب دمائها. إلا أنها قد تخفق في الولايات المتحدة، كما يبدو اليوم بالنسبة للرئيس ترامب، الذي يجد نفسه معزولاً بعد العملية الحمقاء التي أمر بها ضدّ إيران والعراق.

لقد تحرّك مجلس النواب الأمريكي لكبح جماح الرئيس ترامب، فعلى الرغم من الجمود الذي يواجه عملية عزله، ترى نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، أنه يجب على الكونغرس استدعاء المسؤولين الذين شكّلوا الخيارات ودعوا إلى قتل سليماني للشهادة بعد حلف اليمين. في الوقت نفسه، يتعيّن على المشرّعين إجبار ترامب على توضيح أهداف الولايات المتحدة على المدى القريب والبعيد في إيران والعراق.

ومع إحالة النقاش إلى مجلس الشيوخ، ترى بيلوسي أنه ينبغي لهذه الهيئة سنّ تشريعات تتصدّى للمزيد من التصعيد في إيران، ولاسيّما اقتراح النائبة الديمقراطية إليسا سلوتكين، الذي تبنّاه مجلس النواب مؤخّراً بموجب قانون صلاحيات الحرب، كما يتعيّن على الكونغرس تفعيل مشروع قانون النائب “روخانا” الذي يمنع تمويل أية أعمال هجومية في إيران، وكما هو مذكور على كل المنابر، ترى بيلوسي أنه يجب على الكونغرس إلغاء قانون الإذن باستخدام القوة العسكرية الحالي الذي عفا عليه الزمن وقد سُنَّ خلال أزمة العراق عام 2002، ويتعيَّن كذلك على الفور عقد جلسات الاستماع حول مشروع قانون صلاحيات الحرب الذي قدمه السيناتور تيم كين، الذي يتضمن أفكاراً رزينة انطوى عليها مشروع قانون ذي صلة قدَّمه السيناتور جيف مركلي. لقد بات من المؤكد من خلال عملية اغتيال سليماني أن الكونغرس لا يستطيع إعطاء رئيس متهم بما يستوجب عزله، وطائش، غير مطلع، ولم يبتّ في أمره بعد، الضوء الأخضر لاغتيال بطل الحرب في إيران.

لقد ورّط الرئيس ترامب نفسه في أزمة أخرى، خطيرة ولا طائل منها، مع إيران. هذه هي النتيجة شبه الحتمية لنهج ترامب تجاه الشرق الأوسط بشكل عام ولإيران على وجه التحديد، الذي يفتقر إلى الرؤية السليمة، إضافة إلى أنها تعدّ إثباتاً آخر على العجز عن صياغة سياسة متماسكة وفعّالة تجاه أية قضية عالمية مهمّة. فهل خدم اغتيال سليماني المصالح القومية لأمريكا؟ وهل سيجعل الأمريكيين أكثر أمنا وثراءً، أو يزيد من نفوذهم حول العالم؟ إن الجواب الحتمي هو لا.

إن الاغتيال أشعل القومية الإيرانية، ورجّح كفّة القوى المحافظة في إيران، ما يقلّل من مفاعيل المساعي الأمريكية في تغيير نظام الحكم، وبعد اغتيال سليماني بيومين أعلنت إيران تطبيقها الخطوة الخامسة من خطوات تخفيض الالتزام، والتحلّل من أية قيود بشأن تخصيب اليورانيوم وكمياته، وعدد أجهزة التخصيب، كما أن الرئيس ترامب أعطى إيران حافزاً أكبر للحصول على الأسلحة النووية إذا ما أرادت ذلك، وهي خطوة قد تضطر واشنطن للذهاب إلى حرب شاملة، أو تتراجع وتقبل بقنبلة ذرية إيرانية، وهذا كلّه مع بلد لديها نزعات عدائية مع الإسرائيليين شركاء أمريكا الإقليميين، لكنها لا تهدّد أمن ولا رفاه أمريكا نفسها بأي شكل من الأشكال.

وأثار اغتيال سليماني عواطف الإيرانيين واستفز غضبهم، وخرجوا بمئات الآلاف في مدن عدّة، طُوف عليها جثمان سليماني ومن قُتلوا معه، ليصلّي عليهم الإيرانيون، وتجمّع الناس لوداعه في مدينته الأم كرمان بأعداد هائلة، فكان دم سليماني قد وحّد الجبهة الداخلية، ونزعَ أية مساحة تقبل أو تسامح مع أية احتجاجات سيكون من السهل أن توصم بأنها تنفيذٌ لأجندة أمريكية.

إن هذه الحادثة لم توهن من عزائم الشعب الإيراني، فقد سبق أن اغتال الصهاينة قادة من محور المقاومة ولم تتوقَّف المقاومة بل تصاعدت، في إطار ذلك فإن دم الشهيد قاسم سليماني لن يضعف من الجهاد والمقاومة كما يتوهّم الاحتلال، بل سيرون بأعينهم أن النار ستزداد قوة واشتعالاً. وبالتالي من السذاجة الاعتقاد أن كل قوى المقاومة ستنهار ومعها الحرس الثوري لمجرد مقتل أحد قادته، فالإيرانيون خططوا لمثل هذا اليوم.

لقد أخذ نفوذ إيران في المنطقة يتعاظم ونفوذ أمريكا يتقلّص نتيجة خوف جماعي من الغضب الإيراني. فقد أطلقت إيران حملة تخويف بعد اغتيال سليماني طالت كثيراً من دول المنطقة بتهديد مباشر أو بالتلميح.

كما تأكدت أطروحة الجناح الذي يرى أن الولايات المتحدة والغرب ليسوا أهلاً للثقة والتفاوض ولا يحفظون عهودهم، وستكون الانتخابات البرلمانية القريبة في شباط المُقبل معركة مهمّةً في هذا السياق.

إن اغتيال سليماني دشّن إستراتيجية إيران للمنطقة، وتتلخص في أن تقليص الوجود الأمريكي بات مهمّة على عاتق إيران عبر محور المقاومة. وبالفعل كان مجرد اغتيال سليماني دافعاً لإنهاء الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية، وسبباً لتصويت البرلمان العراقي على إنهاء الوجود العسكري لقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بذريعة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.

إن إدارة ترامب ترفض حتى هذه اللحظة شرح وتسويغ سياستها في الاستهداف بالقتل، إلا أن هذه العملية الأخيرة تقوّض أهم القواعد الدولية والأمريكية المطبّقة على مستوى كبح عمليات الاغتيال، بل إنها تضع سوابق دولية أخطر في عمليات الاستهداف بالقتل، فقد أصبحت أمريكا تتبع سياسة الاغتيالات كما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، وأن سلاح الاغتيال أصبح يدير السياسة الأمريكية بحجة الهواجس الأمنية لا المصالح!.