“كلمات وموسيقا”.. مونودراما موسيقية بأسلوب قصصي
آستور بيازولا والتانغو وموسيقا الجاز والبلوز وآلات موسيقية محلية وعالمية تداخلت في رسم الشخصيات والمفردات التي خطّها الأديب والملحن والمخرج الروسي رومان ميخينكوف في المجموعة القصصية “كلمات وموسيقا” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وترجمها من الروسية إلى العربية د.فريد حاتم الشحف، وتمت بمراجعة د.ثائر زين الدين. وقد بُنيت المجموعة على الموسيقا لتكون الركيزة الأولى في بناء المتن القصصي الذي اتخذ سمة المونودراما بمشاهدات البطل أو بأشياء عاشها فعلاً، ومن خلال المونولوج والبوح للقارئ والتنوع السردي تنشأ العلاقات القصصية بين الأمكنة والشخوص في نسج الحكاية، وبقيت الموسيقا هي المهيمنة على روح القصص رغم اختلاف أمزجة الشخوص والأمكنة والعناوين. والأمر الجميل الذي اتسمت به المجموعة هو الهوامش التي تضمنت شروحات وافية تنقل القارئ إلى عوالم ثقافية وجغرافية وأدبية، وتفتح أمامه القدرة على الدمج بين القصة وأبعادها الثقافية.
الجاز والزنوج
ففي قصة “رجل الثلج” العنوان المثير الذي تطرق إليه الكاتب واستخدمه أدباء آخرون، بدت شخصية البطل السارد وهو يدوّن بصوته مشاهداته في زيارته إلى البندقية، المدينة التي وصفها “بالمدينة الخرافية” التي كتب فيها أريغوني وميرولا وماريني وفيفالدي، لينتقل إلى مسرح الأحداث في نادي الجاز الزنجي، والخلاف الذي بدأ معه حول الموسيقا التي لاتنتمي إلى الجاز وإنما إلى بيازولا، ويمضي بالسرد عن حياة الزنوج في البندقية بعدما أطلق عليهم الزنوج المروّضين، ومن ثم تطرق إلى تاريخ هجرة الزنوج من البندقية إلى نيوأورليانز عبْر الجندول ومعاناتهم من التمييز العنصري من المحتمل أن دماء الأجداد قد تحدثت في دواخلهم أولئك الأجداد الذين وصلوا إلى البندقية، كمجذفين على القوادس، إذ اعتمد ميخينكوف في هذه القصة على تداخل الحوارات الصغيرة مع صوت السارد، لتنتهي القصة بغناء مشترك بين الجوقة الزنجية واثنين من السياح الأمريكيين بالاحتفال بميلاد رجل الثلج اللعين بين الزنوج، لتتضح رمزية رجل الثلج إيماءة إلى العنصرية ولونه الأبيض.
التشيللو والحب
ويفرد ميخينيكوف صفحات يخصّها لآلة التشيللو لتكون مساندة للبطلة في قصة “مقطوعة موسيقية للتشيللو” حيث تبدأ يبوتشكا من وصف معاناتها مع آلة التشيللو التي تكرهها وتضطر إلى تعلم أصول العزف عليها لتنفيذ قرارات أهلها، ليدخل الكاتب من خلالها إلى الإشارة إلى الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته موسكو إثر مهاجرة بعض الروس إلى أوروبا مثل خالة يبوتشكا التي تزوجت وهاجرت لتعيش في باريس منذ السبعينيات، وتتدخل بتربية بنات أختها وإجبارهن على تعلم موهبة فالأولى تتعلم الموسيقا والثانية الرسم والثالثة رقص الباليه تقليداً للمظاهر الحضارية.
وفي هذه القصة يغيّر الكاتب من أسلوبه السردي لتمضي خطوط الحبكة بصوت يبوتشكا التي تبوح بقصة حبّها لديمكا المتأثر بالحضارة الأوروبية، لاسيما أنه قادم من النمسا مع والديه الدبلوماسيين، وتمكن من تحويل دروس اللغة الألمانية إلى عروض مسرحية وصدحت حفلات الرقص في المدرسة بالموسيقا المنوعة، وأبقت يبوتشكا صورة ديمكا مع النوطات وربطتها بشريط مع آلة التشيللو رغم أن ديمكا كان لايعيرها اهتماماً ظاهراً.
المنعطف بالقصة هو الفكرة التي راودت يبوتشكا بترك آلة التشيللو في إحدى زوايا الحافلة المكتظة والتظاهر أمام أهلها بأنها أضاعت التشيللو، إلا أن المفاجأة أنها بعد أن تمكنت من تنفيذ الخطة يقرع الباب ويحضر ديمكا آلة التشيللو لأنه كان بالمصادفة موجوداً بالحافلة، فيتغيّر كل شيء وتشعر بأنها تحب آلة التشيللو حينما قال لها ديمكا” أتعزفين لي على التشيللو”؟؟؟
الفلوت والموت
ومن التشيللو إلى آلة الفلوت ذات النغمات الرومانسية التي كان لها دور في قصة “بامبي –عامل إجلاء السيارات –خيال للفلوت” التي بدا فيها المشهد السينمائي السردي الحامل الأحداث التي امتدت إلى زمنين وتراوحت بين الماضي والحاضر، وانتهت بمفاجأة قاتلة غير متوقعة تذهل القارئ وتشد تفكيره من نغمات الفلوت إلى مأساة الموت. والملفت هو اسم القصة “بامبي” الذي شرحه الكاتب ضمن الشروحات بأنه فيلم كرتوني كلاسيكي أنتجته والت ديزني، ويتحدث عن غزال صغير يعيش قصة حب مع فالين ثم يهربان من الصيادين في الغابة، الغزال الصغير الذي احتفظ به بطل القصة توليك صديق المنتج الشهير إيديك ضمن صندوق صغير كان له دور بتحريك أحداث القصة، “ارتبط الغزال الرضيع بأكثر الذكريات رقة أهدته إياه جدته”، تبدأ الأحداث السينمائية القصصية من الشقة الصغيرة لتوليك التي يستخدمها إيدليك لملاقاة عشيقاته مقابل دين له عند توليك، والمفاجأة أن إيدليك انسحب من لقاء عشيقته وترك الأمر لتوليك ليكتشف أن الأنثى التي تغني “إي–ي-ي- ي- د” هي حبيبته تاتيانا حينما كان طالباً بمعهد الثقافة للعزف على آلة الفلوت، وهي بقسم الغناء إلا أنها لم تكن تبادله مشاعره، فيسترجع بصوته الأحداث الماضية منذ خمسة عشر عاماً إذ سافرت تاتيانا لإقامة حفلات غنائية خارجية وهو فصل من المعهد والتحق بالجيش ليعزف على آلة الفلوت في الفرقة الموسيقية العسكرية، ثم عجز في الحصول على عنوانها وعمل في وظيفة عامل إجلاء السيارات في “موقف سيارات موسكو” ومضى الكاتب بسرد الأحداث المتسارعة بصوت توليك الحالم المخطط للمستقبل وبلعبة الحظ ليسعد مع تاتيانا التي كانت على علاقة مع إيديليك لينتج لها “ألبوم” الفكرة التي راودت توليك كانت الهاوية إذ فكر بعرقلة طريق تاتيانا عند خروجها للحديث معها حتى تتذكره، فبيتها ينتهي إلى الغابة وهناك طريق مسدود ففكر بقطع مكان الخروج من الفناء، ونقل سيارات عدة مغطاة بالثلج في الشوارع المجاورة لإغلاق الطريق، لكن المفاجأة القاتلة بتجمع الناس حول منزل تاتيانا التي تعرضت لنوبة قلبية “لكن سيارة الإسعاف لم تصل في الوقت المناسب، شخص ما سدّ الطريق”.
جاءت المجموعة بمئة وستين صفحة من القطع المتوسط وأوحت لوحة الغلاف بتصميم عبد العزيز محمد بملامح من شخوصها.
ملده شويكاني