الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

جَولة

عبد الكريم النّاعم

أنا لا أفهم في الاقتصاد، وما قرأتُه فيه لا يتعدّى أن يكون إلْمامات سطحيّة، وبيني وبين الأرقام تنافر، لاشكّ أنني أنا سببه، فعالَم هذا اليوم التكنولوجي المخيف يقوم على الرَّقَم، ولا أعرف كيف تشكّل هذا النّفور، ففي الصّغر عانيتُ كثيرا من حفظ جدول الضرب، وفي المدرسة كان درس “الحساب” يشكّل لي حرَجا، وحتى في عملي الوظيفي، أُحِلْتُ على التقاعد وأنا لا أعرف مقدار راتبي، كنتُ أذهب إلى المحاسب فآخذ ما يعطيني إيّاه، بينما كان لي زملاء يعرفون ما هو راتبهم حتى ولو كان فيه كسر للفرنك، وحتى الآن، مرّة أخرى لا أعرف مقدار راتبي، ولقد كفاني مَن حولي مؤونة هذه المواجهة، ورغم ضعفي الشديد في هذا العلم فإنّني أُدرك، متأكّدا، من أنّ صندوق النقد الدولي، الذي يقدّم عروضه للبلدان التي هي بحاجة للاقتراض، بشروطه هو، هذا البنك لم يُقدّم قرضا لبلد وأدّى هذا القرض إلى تطوير اقتصاد البلد المَدين، بل على العكس، فهو يزيده إفقاراً، ولدينا عشرات الشواهد، وذلك لأنّ هذا البنك هو بأمواله، بنك مسيَّس، أُنشئ أصلا لإحكام الطّوق حول البلدان التي تقترض منه، فهو يشترط، كما قرّ في ذاكرتي، خصخصة المؤسّسات، وعدم دعم المواد التموينيّة المساعدة، بهذا القدر أو ذاك، للتخفيف من ضغط حاجات المعيشة اليوميّة، ورغم ذلك فثمّة مَن يذهب برجليه، من أولي الأمر، إلى ذلك البنك ليقترض منه، وكأنّه يقول له: “ها أنا أضع عبوديّتي، وتبعيّتي بين يديك، وأعلم أنّك الجلاّد”، تُرى ما الذي يدفع بهؤلاء لقبول هذه العبوديّة؟!! هل هو الوفاء بالتزامات تعهّدوا بها مقابل أن يجلسوا على كراسي الحكم؟!!
إنّ الصبر على الحاجة، والاستغناء عن الكماليّات التي لا يحتاجها إلاّ المتغوِّلون ماليّاً، والاعتماد عل ما تنتجه أرض الوطن، وتحسينه، والاكتفاء به، مع الحرص على تطويره بما يخدم أوسع الشرائح الاجتماعيّة، .. إنّ هذا لهو أفضل بملايين المرات من قبول قيد الاستعباد الاقتصادي. وها نحن نرى أنّ بعض البلدان العربيّة قد انفتح عليها صندوق النقد الدولي، بشروطه المُذِلّة، لقاء إقامة علاقات من نوع ما مع إسرائيل!! هل هذا يحتاج إلى تفسير؟!!
أنا أعرف، رغم ضعفي البائس في لغة الأرقام، لأنّ هذه شبه موقوفة على الذين بين أيديهم من الأموال الكثير الكثير،.. أعرف أنّ الاقتصاد محرِّك أساسي في الحراكات الاجتماعيّة، ولكنّه ليس العنصر الوحيد، فقد أثبتت التجارب القديمة والحديثة في حياة الشعوب أنّ ثمّة محرّكات أخرى، لا تُلغي الأثر الاقتصادي، لأنّ هذا غير ممكن ما دام الإنسان بحاجة للأكل، والسّكن، والطبابة، والتعليم، بيد أنّ ثمّة محرّكات أخرى أثبتتها وقائع الأحداث، كما أعلم أنّ العدالة الاجتماعيّة/ الاشتراكيّة، ليست صيغة واحدة جامدة، بل لابدّ لها من أن تتأقلم مع واردات البلد ومُنتجاته، وهذه معطيات تختلف من مجتمع إلى آخر، وأقرب الأمثلة التطبيق الاشتراكي أيام الاتحاد السوفياتي، الذي اختلف اختلافا كبيرا عمّا ارتأتْه الصين أيام ماو تسي تونغ،
الذي أعرفه أيضا كمحصّلة، بعد كل الأحداث التي مرّت بنا منذ مطالع ستّينيات القرن الماضي، أنّ إيجاد صيغة لا غُبن فيها بين الرأسمال الوطني والدولة هو أمر مطلوب، من أجل تطوير البلاد اقتصاديّاً، ورغم أنّ الثّقة تعاني من شيء من القلق بين الرأسمال وبين تحقيق العدالة الاجتماعيّة، لميل صاحب المال، غالباً، إلى تثمير أمواله ولو على حساب فقر الفقراء وبقيّة الشرائح، وما تتّخذه الدولة من إجراءات لتحقيق ذلك التوازن المطلوب هو العاصم من الشّطط والتّغوّل.
إنّ ما أدعو إليه ليس صعبا، ولا مستحيلا حين تتوفّر الإرادة ممّن هو قادر عليها، فكلّنا يذكر إلى أين وصلت سوريّة، قبل تدميرها، بإمكانياتها، دون الاعتماد على أيّ عون خارجيّ، يكفي أن نذكّر أنّها كانت بلداً لا ديون خارجيّة عليه، وهذا من النّادر في بلدان العالم الثالث.
أنا أعلم أنّ الأزمة خلّفت الكثير من الخراب في الاقتصاد، وفي النفوس، وأنّنا سنخرج من شبه حُطام، ولكنّني أثق بإنسان هذه الأرض.
aaalnaem@gmail.com