الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

المياه.. المالحة!

حسن حميد
أحياناً، تضرّ معرفة السيرة الذاتية للكاتب بالنصوص التي كتبها ونشرها، وذلك حين تكون هذه السيرة بعيدة، قليلاً أو كثيراً، عن مسارات النصوص وأهدافها والقيم التي توختها، وأحياناً أخرى تجمّل السيرة الذاتية للكاتب نصوصه التي يخرجها مطبوعة إلى الناس، فتصير بين أيدي القراء رواءً مضاعفاً للرواء الذي تمدهم به النصوص. من السير الذاتية التي أمدت نصوص كتّـابها بالرواء سيرة الكاتب الروسي بوشكين، والكاتب الألماني تسيفايج، والكاتب الإنكليزي سومرست موم، والكاتب العربي نجيب محفوظ. وشعراء كثرة، وهنا لا أقصد الجوانب التراجيدية في سير هؤلاء الأدباء، وإنما أعني المواءمة ما بين السيرة الذاتية والنصوص وكأنهما مرآتان إحداهما تجلو الثانية. ومن الذين شوّهت سيرهم الذاتية نصوصهم أو آذتها، وأوجدت ما بين النص الأدبي والسيرة الذاتية مسافات شاسعة ملئت بما لا تحبه النفس المطبوعة على الخير والنبل، سيرة الكاتب الأمريكي جون شتاينبك (1902- 1968) الذي عاش حياة لم تكن وافرة في نجاحاتها لأن روحه المهمومة بالنجاح لم تكن في عافيتها، فقد ذهب إلى الجامعة ولم يحصل على شهادتها، ولم يعرف عملاً في الحياة أدّى به إلى الارتقاء والنجاح سوى الكتابة فيما بعد، فقد عرف الإخفاق وراء الإخفاق في الكتب الأولى التي نشرها، أما سيرته الذاتية فتقول إنه عمل كاتب أخبار في صحف عدة ولم ينجح، وعمل حارساً لبيوت قيد الإنشاء، وعمل في بناء تلك البيوت، وفي المزارع، ولكن المذل شناعةً أنه وفي أواخر حياته كان نصيراً للعدوان الأمريكي على فيتنام، وقد استقل الطائرات الحربية مرات عدة كي يرى ما يرتكبه الطيارون الأمريكان من مجازر بحق الفيتناميين، ولا سيما النساء الفيتناميات اللواتي كن يشتلن شتلات الأرز في الحقول التي عُومت بالمياه، وقد رأى هؤلاء النسوة وقد ملأن أحضانهن بشتلات الأرز، وعلى ظهورهن حملن أطفالهن الرضع، وكان يصفق ويبتهج حين تغوّر القنابل العنقودية هؤلاء النسوة الفيتناميات في أعماق الأرض، ويصف أصوات القنابل بالموسيقا السيمفونية، وقد كتب كتاباً لصالح الجيش الأمريكي عنوانه (القنابل إلى الخارج) لا علاقة له بالأدب إطلاقاً.
لقد أساءت السيرة الذاتية لـ جون شتاينبك، في هذه الجزئية المذلة، إلى نصوصه الأدبية، وأوجدت مساحات فارغة بينهما ملأها بالعدوانية والدموية والرضا عن البطش بالآخرين وطيّ حيواتهم.
ولكن، وهنا المفارقة، كتب جون شتاينبك رواية عنوانها (غروب القمر) في عام 1942، وهي تتحدث عن الغزو الألماني النازي لبلدة صغيرة في النروج، ومقاومة أهلها للقوات الألمانية، وبصورٍ مختلفة ومتعددة، حيث شملت أعمال المقاومة الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والمثقفين وغير المثقفين، فبدا المجتمع على قلب واحد يؤيد المقاومة ويعمل عليها ضد الغزو النازي؛ لم تكن الرواية كبيرة، ولا ذات فذاذة فنية خارقة للمعتاد، وإنما كانت كبيرة وفذة بأفكارها والقيم التي ذهبت في تأييدها، فقد قالت بجملة واحدة: لابدّ من مقاومة الأعداء! لأن الاستسلام والخضوع للمحتل عار ما بعده عار، سيكتبه الكبار ويعرفه الصغار، وبدلاً من كتابة العار لابدّ من كتابة أحداث المقاومة وحادثاتها لأن الشرف والكبرياء والكرامة قيمٌ قارّة فيها.
ومع أن هذه الرواية تحتفي بالقيم السامية المعهودة في الشعوب وهي تواجه الظلم إلا أن سيرة جون شتاينبك التي أيدت الاحتلال الأمريكي لبلاد الفيتنام، وسكتت على ما تفعله السياسات الأمريكية في دول كثيرة من العالم، ومنها كوبا ونيكاراغوا، وما اقترفه من مجازر وأشكال عدة من الحصار والإيذاء.. غطّت على هذه الرواية وما فيها، وهذا درس للكتّـاب والأدباء الذين يحفرون الخنادق المملوءة بالمياه المالحة ما بين نصوصهم وسيرهم الذاتية.

Hasanhamid55@yahoo.com