كريكور زوهراب شهيد الإبادة الأرمنية
د. سركيس بورنزسيان
جريمة إبادة الأجناس البشرية التي تعرّض لها الشعب الأرمني من السلطات العثمانية هي محصلة وتتويج لسلسلة من المذابح والمجازر التي تعرّض لها هذا الشعب على مدى عشرات السنين. ولعلّ أكثر فصول هذه الجريمة تنظيما ومنهجة كان في العام 1915، حيث كان المخطّط الإبادي يعتمد بالدرجة الأولى التخلّص من النخب الفكرية والنخب العلمية للشعب الأرمني، على مختلف الصعد السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية، وغيرها، لكي يصبح الشعب، بعد القضاء على نخبته القائدة والواعية، في حالة ضياع يسهل بعدها الفتك به وإبادته دون ضجة أو ردّة فعل تعطل على المجرمين خطتهم الجهنمية.
كانت أولى خطوات تنفيذ مخطط الإبادة الأرمنية في ربيع عام 1915 عبر اعتقال المئات من المفكرين الأرمن، وبعد ذلك اعتقال أعضاء مجلس “المبعوثان” الأرمن والتخلّص منهم، وهم فارتكيس سيرانكوليان نائب ارضروم، وميناس شيراز نائب بتليس، وستيبان حراجيان نائب أرغني، وأرشاك فراميان نائب فان الذي قتل في موش، والنائب قره بيت تومايان، ونائب كوزان هامبارسوم بوياجيان الذي شُنق في قيصرية؛ ويعتبر كريكور زوهراب نائب اسطنبول الأكثر تأثيرا وشهرة بينهم.
ولد كريكور زوهراب في اسطنبول يوم 26 حزيران 1861، ودرس في مدارسها ونال شهادتين: الأولى في الهندسة والثانية في الحقوق. وفي العام 1883، بدأ ممارسة المحاماة وتزامن عمله في مهنته الجديدة مع نشاطه الأدبي وعمل في المجلات الأرمنية مثل “هايرينيك” و”ارفيلك”. وتعدّد نشاطه الأدبي والكتابي، فكتب المقالات والشعر بداية، ثم كتب الروايات والقصائد الموزونة، إلا أنه برع في كتابة القصة القصيرة حتى أصبح من أهم كتّابها، وعُرف باسم “أمير القصة”، حيث وصف في كتاباته المجتمع المحلي الاسطنبولي، وتطرق إلى معاناة الإنسان بشكل عام، ومعاناة الإنسان الأرمني المظلوم وخاصة الشباب الأرمني الكادح المهاجر من الولايات الشرقية هربا من بطش وظلم الأغوات والحكام الأتراك، فأصبح لسان حال المضطهدين والمظلومين. كما أنه دافع عن المرأة وحقوقها في رواياته، وعرف بأسلوبه الخاص وقدرته على التأثير على أحاسيس قرائه ووجدانهم، كما أصدر كتابا في فرنسا بعنوان “القضية الأرمنية في ضوء الوثائق عام 1913” باسم مستعار (مارسيل ليار)، يدعو فيه لإجراء إصلاحات سياسية في الولايات الأرمنية للدولة العثمانية، وإقامة نظام حكم لا مركزي. ويظهر جليّا أن فكر زوهراب السياسي كان إصلاحيا، فهو يدعو إلى الحفاظ على الدولة ووحدتها مع طرح أفكار العدالة والمساواة، وبالمحصلة فإن فكره كان إصلاحيا غير انفصالي.
مجازر السلطان عبد الحميد
في عام 1894، بدأ السلطان العثماني عبد الحميد المجازر بحق الشعب الأرمني. وبعد عام توجّه زوهراب إلى أوروبا فعاش في فرنسا وألمانيا، وتابع دراساته في جامعاتها، حيث تعرّف هناك على المعارضين لحكم عبد الحميد من الأتراك الشباب ومن حزب الائتلاف وحزب الاتحاد، ومنهم أحمد رضا والأمير صباح الدين والدكتور ناظم وبهاء الدين شاكر وغيرهم، وسرعان ما بدأ التعاون معهم بهدف إسقاط عبد الحميد وإقامة نظام حكم لا مركزي، حيث تسود المساواة والإخاء والعدالة بين مختلف شعوب الدولة العثمانية، وكان الجميع متفقين على إجراء إصلاحات سياسية ضمن إطار دولة متعددة الأعراق والاثنيات توحّد الكل.
عاد كريكور زوهراب إلى اسطنبول عام 1908، حيث شارك مع الاتحاديين الأتراك في انقلاب 23 تموز 1908، وتم الإعلان عن إعادة العمل بدستور 1876 وانتخب عضوا في مجلس “المبعوثان” العثماني عن اسطنبول، وكانت له علاقات طيبة مع الاتحاديين، ومع طلعت بشكل خاص وكان يصفه بـ “الجنتلمان”. في 13 نيسان 1909، قام السلطان عبد الحميد بحركة مضادة من أجل استعادة السلطة من حزب الاتحاد والترقي. في البداية حقّقت الحركة النجاح، ولوحق الاتحاديون في اسطنبول وعندما توجّه أعوان عبد الحميد إلى المجلس لاعتقال الاتحاديين قام زوهراب بتهريب صديقه طلعت من المجلس وألبسه قبعته الأوروبية الخاصة ولبس عوضا عنها الطربوش التركي لطلعت، واستطاع طلعت التسلل إلى خارج المجلس، وبتوصية من زوهراب التجأ طلعت إلى أحد الأندية الثقافية الأرمنية، واختبأ خليل أفندي في بيت زوهراب هربا من بطش رجال عبد الحميد، لكن حزب الاتحاد استطاع أن يسترجع زمام الحكم في اسطنبول، وكان كلّ من طلعت وخليل أفندي يناديان زوهراب بأخي وتوطّدت العلاقات العائلية فيما بينهم.
في العام 1912، أُعيد انتخاب زوهراب في المجلس، وفي هذه الفترة تعرف زوهراب على السياسيين العرب أعضاء الجمعيات الأدبية والثقافية والسياسية المقيمين في اسطنبول وتعاون معهم، ومنهم فارس الخوري، وشكري القوتلي عضو الجمعية القحطانية، وكان كلاهما يذكران زوهراب وفارتكس ومعاناتهم من الظلم والعنصرية العثمانية ونضالهم المشترك عند كل لقاء مع الفعاليات الأرمنية في المستقبل.
عُرف زوهراب بخطاباته القوية ومواقفه الجريئة في المجلس التشريعي، مستنكرا الظلم والفساد معتمدا على حجج قانونية دامغة، لم تكن تلك المواقف لم ترق لزعماء الاتحاد الذين كانوا بانتظار أول فرصة سانحة للتخلّص من الأمة الأرمنية وزعمائها.
جريمة إبادة الأرمن
في العام 1915، اتخذت اللجنة المركزية لحزب الاتحاد والترقي قرارا بتنفيذ مقررات مؤتمر سالونيك للحزب لعام 1910 والبدء بتنفيذ جريمة إبادة الأرمن، حيث أرسلت وزارة الداخلية في بداية شهر نيسان تعميما يوميا إلى الولاة باعتقال الوجهاء الأرمن والقيام بأعمال تعسفية بحجة البحث عن السلاح والجنود الهاربين. في الفترة من 11 نيسان وحتى 24 نيسان 1915، بدأت أعمال القمع من سجن وتشريد وتنكيل بداية في اسطنبول ومن ثم في كل الولايات الأخرى، وحول ذلك وجّه زوهراب رسالتي احتجاج في 13 نيسان و15 نيسان 1915 إلى وزير الداخلية ورئيس الوزراء؛ كذلك فعل زميله في المجلس فارتكس، ولم تنفع هذه الاحتجاجات. وفي 15 أيار، شرح فارتكس علنا تلك الأعمال الوحشية واستنكرها قائلا بأنها لن تبقى دون عقاب في المستقبل، أجابه طلعت بوقاحة: “حكم البلاد في يدنا ونستطيع أن نفعل ما نشاء”. وفي اليوم التالي، زار زوهراب الأمين العام للاتحاد مدحت شكري وقال له: “سوف نطلب منكم الحساب يوما عن هذه الأعمال التي تُرتكب”، فقال له طلعت بفظاظة: “من الذي سيطلب الحساب؟”، فقال له النائب زوهراب: “أنا الذي سيطلب الحساب بصفتي نائبا في المجلس”. ولكي لا تسمع صوت احتجاج الأعضاء الأرمن في المجلس التشريعي الذين يطالبون بالعدالة، عمدت الحكومة العثمانية الموكلة بتنفيذ أمر إبادة النواب الأرمن في البرلمان إلى اعتقالهم في اسطنبول، فاعتقل كلّ من زوهراب وفارتكيس بواسطة مدير الشرطة بدري بيكو، وأرسلا إلى ديار بكر بحجة تقديمهما للمحكمة العرفية، وخرجا من محطة حيدر باشا باتجاه اسكيشهير، ثم قونية وأضنة وحلب، وقضيا 36 يوما ذاقا فيها الأمرين على أيدي الدرك والمجرمين الأتراك، ووصلا في 16 حزيران 1915 إلى حلب. بقي زوهراب وفارتكيس 13 يوما في حلب وأقاما في فندق بارون، وأثناء وجودهما في حلب، بعث جمال باشا “الذي كان على خلاف مع طلعت وأنور حول تصفية النواب الأرمن وكان يعارض فكرة إفنائهم في منطقته”، فأرسل بمبعوث إلى أحد رجال الدين الأرمن مبلغا إياه أنه سيتمّ اغتيال النواب الأرمن في الطريق عند ترحيلهم إلى ديار بكر، وطلب منه إبلاغ زوهراب بأنه سيسهل هروبهم إلى الاسكندرونة، ومنها إلى خارج الدولة العثمانية، وأرسل رجل الدين مبعوثا إلى زوهراب وأبلغه بفكرة الهروب. رفض زوهراب قائلا: لقد أبرقت إلى طلعت باشا صديقي الوفي وأنا واثق بأن أخي طلعت سينقذني..”!!
بعد 13 يوما، توجهت قافلة تضم زوهراب وفارتكيس باتجاه ديار بكر عبر أورفة، ووصلوا إليها يوم 4 تموز. وفي صباح 6 تموز، خرجوا منها عبر أورفة ووصلوا إليها يوم 4 تموز، وفي صباح 6 تموز خرجوا منها بالعربة، وبعد ساعة قتل الاثنان بالقرب من قرية قره كوي، ونكل بهما من قبل مجرمي عصابات التشكيلات الخاصة برئاسة أحمد الجركسي.
مواقف فارس الخوري
في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أنه عندما عقد مجلس “المبعوثان” العثماني اجتماعه بعد جريمة الإبادة هذه بأيام قلائل، جيء بشخصيتين إلى المجلس لتحلا مكان النائبين زوهراب وفارتكيس، ففوجئ بهما فارس الخوري (أحد نواب رئيس مجلس النواب والوزراء في سورية فيما بعد)، حيث لم يكن قد شاهدهما من قبل. فنظر إلى طلعت باشا وسأله: من يكون هذان الشخصان؟ تغيّر لون وجه طلعت باشا وحدق في زميله أنور باشا، ولم يستطيعا قول الحقيقة وبديا محرجين. وبعد دقائق، مال طلعت باشا نحو فارس الخوري قائلا: أمهلنا حتى الأسبوع القادم لنعطيك الجواب.. وفي الأسبوع التالي، أجبر فارس الخوري على عدم حضور الجلسة بعد أن علم أن هذين الشخصين جيء بهما بديلا عن النائبين زوهراب وفارتكيس اللذين قتلا في جريمة الإبادة ضد الشعب الأرمني. وكانت هذه الحادثة إحدى وقائع اليوميات التي سجّلها فارس الخوري في مذكراته، كما ذكرها كاتب ذكرياته أيضا محمد الفرحاتي باعتبارها شهادة حق يجب ألا تخفى، وجاءت تحت عنوان “فارس الخوري يحرج النواب العثمانيين”.
بالنتيجة، فإن إرسال زوهراب وفارتكيس وغيرهما من الأرمن إلى ديار بكر هو أحجية تفسيرها يعني “الحكم بالموت”، حيث قتلوا عن سابق إصرار وتصميم دونما تحقيق ولا محاكمة. ويؤكد شاهد العيان المحامي السوري فائز الغصن أن زوهراب وفارتكيس قتلا وكانا ضحيتين لجرأتهما وإقدامهما.. قتلا حسدا لعلمها وحبهما للأرمن، قتلا لثباتهما على مسلكهما.