رؤى.. الغموض في الشعر
محمد راتب الحلاق
إن الجميل غريب دائماً (حسب بودلير)، والغموض في الشعر، وفي الفن عموماً، مبدأ جمالي، وليس تضليلاً للقارئ. ويؤكد علم النفس أن المنبهات الغامضة أكثر إثارة من المنبهات الواضحة.
فالشعر، والفن عموماً، يفقد قدرته على الإمتاع حين يكون شديد الوضوح، لأن الغموض يجعل للشعر وقع الموسيقا أكثر من وقع التفكير (حسب الشاعر الفرنسي فرلين)، ومن طبيعة الصورة الشعرية الأصيلة أن تكون أقل خطورة قي الأذهان، وأوسع مدى في الخيال، وألذ وقعاٌ على الذائقة.
وقد بدأت النصوص الشعرية الحديثة بالابتعاد عن المباشرة، عبر توظيف الرمز، والتناص مع أخبار التراث، واستخدام القناع، وتقليد التجربة الصوفية باللجوء إلى التجريد الذهني، وتعليم الكلمة لتقول أكثر من معناها المعجمي، عبر العدول والانزياح، ليغدو المعنى متعلقاً بالسياق حسب القاضي عبد الجبار، أو بالنظم/ حسب الجرجاني، مما جعل تذوق الشعر يتطلب قارئاً ملماً بالمنابع العميقة التي تم فيها إنتاج النص، لمحاولة استعادة تجربة الشاعر، بعد أن غدا المتلقي شريكاً في إنتاج النص.
ومن طبيعة النص الشعري الأصيل أن لا يمنح نفسه للمتلقي بسهولة، بل لابد من الاجتهاد للكشف عن المكبوت واللامكتوب. فالغموض، ما بقي في أفقه الفني، من طبيعة الصورة الشعرية الأصيلة، وعندما كان المتنبي يسأل عن بعض صوره (الغامضة) كان يقول اسألوا ابن جني فهو أعلم بشعري مني، كما كان أبو تمام يرد: ولماذا لا تفهم ما يقال على من يقول له لماذا لا تقول ما يفهم؟ فلكل شاعر طريقته في إنتاج الصورة الشعرية، إذا عرفها القارئ لا تعود الصورة غامضة.
يقول الجرجاني صاحب (أسرار البلاغة): “إن هذا الضرب من المعاني (اللطيفة) كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه. ثم ما كل فكر يهتدي إلى الكشف عن وجه ما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه.
فالنص الأدبي عموماً، والشعري خصوصاً، حمال أوجه، يتيح لكل متلق أن يحصل المعنى (المغزى الشخصي) الذي يتناسب مع ثقافته وخبرته وما يختزنه في ذاكرته، بل يتيح للمتلقي الواحد أن يحصل معاني مختلفة عند كل قراءة،: فــ “حيث لا تكون ثمة إيحاءات ودلالات متعددة وخيال طليق لا يكون ثمة شعر/ حسب ليوناردو دافنشي “.
والنص الشعري الأصيل كالسيمفونية الموسيقية التي تمنح سامعها نشوة تختلف في كل مرة عن المرات السابقة.
في النص غير الأدبي، وغير الشعري، المعنى أهم من المبنى، واللغة فيه مجرد أداة توصيل، وكل ما يحرص عليه منشئ النص يتمثل في تجنب الركاكة والالتزام بالوضوح التام ما أمكنه ذلك، أما الالتباس، إن وقع، فلضعف في أدوات منشئه، أو لمصلحة يحاول أن يخفيها. أما في النص الشعري فاللغة طرف رئيس وفاعل، ومادة خام مستعدة لتقبل التشكيل الذي يقترحه الشاعر عليها. يقول عبد القاهر الجرجاني: “واعلم أن الداء الدوي، الذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزية، إن هو أعطى، إلا ما فضل عن المعنى، يقول ما اللفظ لولا المعنى وهل الكلام إلا معناه”. وكان الجاحظ قد قال: “إن المعاني مطروحة في الطريق.. وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج.. وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير “.