ثقافةصحيفة البعث

رحلة إلى أعماق النفس.. في “ألف”

“يتعين عليك أحياناً السفر بعيداً للحصول على ماهو قريب” هذه متاهة الكاتب دوماً، في أغلب روايته يأخذ الأسلوب نفسه تقريباً، تأخذ هذه الرواية قالباَ صوفياً وتحمل في ثناياها بعضاَ من لمسات الجنون والحكمة في الوقت ذاته، رواية تأخذ القارئ في رحلة للبحث عن الذات والإمساك بزمام الأمور في مملكة الحياة.

روايات باولو كويلو تشبه كثيراً كتب التنمية البشرية، لذلك فإنها ستعجب القارئ الذي يرى العالم مكاناً مثالياً، كاملاً وقابلاً للإصلاح وما عليه فقط إلا أن يكتشف كيف، أما القارئ الناقم المعتقد بعبثية هذا العالم والذي ينظر له نظرة سلبية ويحاول أن يجد في الأدب تبريراً لإحباطاته وسوداويته فغالباً سيكره باولو كويلو وكتبه.

في رواية “ألف” يبدو كويلو وكأنه يكتب مذكراته الشخصية، فهو ذاته البطل ومعه ناشريه ومحرريه وقراءه، يتجول ليحتفي بنجاحه ويحضر حفلات التوقيع ويقابل مريديه ويبدو الترف في كل ما يحيط به فهو يتكلم عن أسئلة وجودية مرتبطة باهتماماته في الارتقاء الروحي ولا تواجهه مشكلات مادية وتنظيمية في القيام بمغامرة عبر القارة الأوروبية يصطحب فيها أشخاصاً يمثل هو محور اهتمامهم جميعاً.

يواجه كويلو مشاكل مع نفسه، مع إيمانه وحياته بل وقناعاته، فهو بعد 20 عاماً من سحر رحلة الحج، والسعي وراء الحماسة والشغف والسعادة والإيمان والحب، بدأ يشعر بالرتابة، الفتور، عدم السعادة لذلك بمناسبة صدور كتاب له يقرر المخاطرة وهو في سن التاسعة والخمسين برحلة حج مختلفة لكسر الرتابة، رحلة ترويج لكتابه في دول كثيرة مختلفة، على متن قطار روسيا سيبيريا العابر لروسيا كلها من جانبها الغربي بأوروبا للمحيط الهادئ بأقصى جانبها الشرقي. لم يتقمص كويلو شخصية أخرى، قرأت في أحد المقابلات معه جواباً إن كان يكتب عن تجارب شخصية فأجاب بأن كل شخصية في كتاب تمثل جزءاً منه، أو تمثله هو كله، فهو كل امرأة وكل رجل.

ليست رواية وليست سيرة ذاتية وليست أدب رحلات ولكنها رحلة نفسية عرض لنفس الكاتب التي أصبحت جرداء فقرر أن يبحث عن الحياة عن الألف وأن يقوم برحلة طويلة مرهقة فيقابل “هلال” الفتاة التي أشعلت له النار في الجهة المقابلة فأشعل هو لها بالمثل نارا، هلال التي جاءت لتشاركه الرحلة على متن قطار سيبيريا الروسي ليقطعا معاً ما يقارب الـ10000 كيلومتر في رحلة من الألف، الحب والغفران أيضاً. “هلال” شخصية مندفعة وطائشة، فيها من الطفولة الكثير لكن ذلك لم يمنع كويلو من الاستماع إليها أو البقاء معها، وفي بداية الرواية كان غرور كويلو كبيراً كلما صد الفتاة كقارئة عادية، ولولا إلحاحها المتكرر لما خاض التجربة التي أراد.

قصتهُ هو وهلال تأخذ عمقاً روحياً، فكرة الكتاب هي عن التقمص أو الحيوات الأخرى التي يحياها الإنسان، كويلو شخصية روحانية بامتياز، وتتجلى هذه الروحانية في روايته هذه حيث يوضح فيها وبإسهاب مفهومه عن الألف “أنا في الألف، نقطة التقاء كل شيء في نفس المكان والزمان. أنا قبالة النافذة ألقي بنظري على العالم وأمكنته السرية، الشعر هائم في الزمن والكلمات متروكة، وقد علقت في الفضاء. هاتان العينان تخبراني عن أمور لا نعلم حتى أنها موجودة، غير أنها هناك، رهن الاكتشاف، رهن المعرفة، بالأرواح لا بالأجساد. جمل مفهومة تماماً، حتى وإن لم تقل. مشاعر تسمو بنا وتطبق علينا في آن. أنا أقف قبالة أبواب تنفتح لجزء من الثانية وتنغلق من جديد، لكن ذلك يعطيني لمحة عما يختبئ خلفها، الكنوز والإشراك، الدروب التي لم تسلك يوماً، والرحلات التي لم تخطر يوماً في البال.”

قد يبدو كويلو في هذه الرواية شخصية متحذلقة، كما كان في مشهد نقده العنيف لصلاة هلال لشابة تلتقيها هي تاتيانا، رغم أن تلك التجربة التي انتقدها وبشدة كانت تجربة روحانية مؤثرة لتاتيانا بالفعل، لكنه كان أميناً في عرض شخصيته حتى عندما تتعرض للنقد الشديد من بقية الشخوص كما كان في موقف حديثه مع الشاب الذي رقصت هلال معه.

مقدرة كويلو على الكتابة هائلة ففي تصويره الرائع يصور أكثر من مشهد وبجرة قلم ينقلك من زمان إلى آخر دون أن تتوه معه، المغامرة في ألف ليست مغامرته الشخصية فحسب، بل مغامرة أشخاص آخرين، وفيها أجوبة أسئلة تخطر على بال كل منا بشكل عفوي. التجربة الجديدة في ألف “الحيوات الأخرى” مثيرة ومشوقة بل وجديدة، نادراً ما نقرأ عن التقمص أو انتقال الأرواح والأمور الشبيهة، لكنه أتى بتجربة جديدة ومثيرة له وللقارئ.

عُلا أحمد