دراساتصحيفة البعث

أوروبا لا ترغب بتكرار تجربة الحروب الباردة ..

ريا خوري

ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تكيل الاتهامات للصين من خلال العديد من التصريحات الساخرة حول العديد من القضايا، مع علمنا المسبق أنَّ تلك التناقضات والخلافات لم تبدأ مع جائحة كوفيد 19 (كورونا)، ولن تنتهي عند أحداث هونغ كونغ أو فضيحة مقتل (جورج فلويد) البشعة. في هذا السياق الساخن نرى على المقلب الآخر ما يقوله وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أنَّ بلجيكا لا ترغب ولا تنوي الدخول في (حرب باردة) مع الصين، وهي حرب محتملة بين أوروبا والصين، مع أنَّ الحرب الباردة مع الصين فعلياً وعملياً قد بدأت دون ضجيج.

يقف الاتحاد الأوروبي على موروث طويل من الحروب وإدارة الأزمات والكوارث والتعايش معها، وهو يعرف قبل غيره أنَّ الفاصل الزمني بين حقبة انتهت وصارت في الماضي، وحقبة تالية  تتشكَّل وتتبلور وفق حسابات ورؤى جديدة، وهي في الوقت ذاته مستنفرة ومتحفِّزة. في مثل تلك الحالة الهامة يأتي تصريح متوقَّع لجوزيب بوريل وزير خارجية الاتحاد الأوروبي وهو مسؤول كبير، ليؤكِّد أنَّ من أهم دوافعه أنَّ دول الاتحاد الأوروبي التي كانت ساحة واسعة ورئيسية للحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، لا ترغب في أن تعيد العيش في التجربة القاسية مرَّةً ثانية، بل تريد أن تكون أوروبا محايدة قدر الإمكان، وإذا اندفعت الصين والولايات المتحدة الأمريكية في صراع متقلِّب ومتعدّد الوجوه فإنَّ دول الاتحاد الأوروبي ستكون أحد الميادين الطبيعية لهذا الصراع الساخن على الرغم من تسميته (بالحرب الباردة) بخاصة إذا انحازت بعض دول الاتحاد إلى هذا الطرف أو ذاك، وإن كان الحليف الأمريكي أقرب من الصين، نظراً إلى ذلك التاريخ المشترك بالهوية والسمات الحضارية المشتركة والمتشابكة.

قد كانت الأصوات الأوروبية أكثر واقعية ومصداقية منذ بدأت جائحة كوفيد 19(كورونا)، فقد نبَّهت مراراً إلى أنَّ التوازنات الدولية ما بعد وباء كوفيد 19 لن تكون كما قبلها، وقد أفصح عن ذلك زعماء من أمثال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي. وهم يمثلون المحرِّك الضخم لآلة السياسة والاقتصاد للاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، وربما التقطوا قبل غيرهم الإشارات التي توحي بأنَّ التغيير قد بدأ، وأنَّ القدرة والوعي والحكمة تتطلب استيعابه ومحاولة مجاراته في التعايش معه، وليس التمرُّد ومواجهته على الحتمية التاريخية.

إنَّ صريح القول يؤكِّد لنا أنَّ هذه الرؤية والمنطقية والواقعية تتعارض مع نهج الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تستوعب أنَّ المعادلات تغيَّرت. وها هي تتجه نحو انقلاب شامل وجذري، يشمل كل القواعد التي حكمت العلاقات الدولية منذ ما يقارب المائة عام. والأوروبيون يؤمنون تمام الإيمان بالقول المأثور: (إذا لم تستطع قهر خصومك عليك أن تتسلَّح بالحيلة) بكل ما يعنيه من ذلك الالتزام بالموضوعية والحكمة والعقلانية وحذر التهوُّر.

في الأزمات تظهر المعايير في السياسات، وإذا كان خوف الولايات المتحدة الأمريكية من الصين مشروعاً، فإنَّ الواقع على الأرض ومجريات الأحداث يفرض البحث عن مقاربة جديدة يمكن اعتمادها من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع خصومها وأعدائها وفي مقدمتهم  جمهورية الصين الشعبية. أما التعويل على المنهج الذي كان متبعاً قبل انتشار فيروس كوفيد 19 (كورونا) فلم تجد نفعاً. ويبدو أنَّ القادة الصينيين قد أخذوا حذرهم واستعدُّوا بشكل جيِّد لهذا الوضع، ويمكنهم أن يديروا الصراع بدهاءٍ منقطع النظير. بينما ما زالت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ترزحان تحت وطأة كوفيد 19 (كورونا)، نجد أنَّ الصين تتعافى بسرعة لا نظير لها، ويبدو أنَّ المستقبل مفتوح على مصراعيه على عهدٍ من الإثارة والتناحر الدموي والسير لمدةٍ طويلة على حافة الهاوية وربما السقوط.