دراساتصحيفة البعث

التحديات الجيوسياسية للهجرة

هيفاء علي

 

شهد العالم في الآونة الأخيرة من هذا القرن تدفقاً كبيراً للهجرة إلى جنوب الكوكب، حيث تعد أوروبا اليوم المنطقة الأكثر جذباً كونها تستقبل أكثر من ثلث المهاجرين، وعلى عكس العقيدة الراسخة، فإن الدول الأوروبية، وخاصة الغربية، هي الدول الأكثر سخاء مع المهاجرين، ففي عام 2005 قصد 41 مليون شخص من أصل 191 مليون مهاجر الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك 2 مليون شخص بطرق غير شرعية، وخلال الـ 25 عاماً الماضية تم تنظيم 3 ملايين مهاجر غير شرعي في القارة، وأدت ذروة الهجرة خلال عام 2015  إلى دخول مليون مهاجر إلى الاتحاد الأوروبي، منهم حوالي 350.000 مهاجر غير شرعي، أي بزيادة بلغت 85٪ مقارنة بعام 2014.

 

الهجرة الأوروبية بعد الحرب العالمية

بعد الحرب العالمية الثانية دفعت الحاجة إلى قوة عاملة لإعادة الإعمار والتنمية الصناعية الدول والشركات للجوء إلى الهجرة الموسمية للعمل، وتأثر ما يقرب من 10 ملايين شخص بهذه الحركات المهاجرة: الأتراك واليوغسلافيون إلى ألمانيا، والجزائريون والايطاليون والبرتغاليون والاسبان إلى فرنسا، كما تحولت هجرة العمل الموسمية إلى هجرة دائمة عام 1974في فرنسا بعد لم شمل الأسر الوافدة، وبالتالي أصبح لم شمل الأسرة السبب الرئيسي للتسوية الدائمة، والمصدر الرئيسي للهجرة إلى أوروبا الغربية قبل وقت طويل من العمل، أو اللجوء السياسي، هذه المجموعة محمية بموجب قانون الاتحاد الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

ولكن منذ السبعينيات تغيّرت الهجرة بشكل جذري، فقد زادت المسافات بين المجتمعات المرسلة والمستقبلة، سواء بالكيلومترات، أو في الاختلافات الثقافية، وأصبح الاستيعاب أكثر صعوبة في فرنسا جراء صعوبة الاندماج، وعلى العكس من ذلك، يتقدم النموذج الأنغلوساكسوني المجتمعي بحصص للأقليات العرقية، وتكييف ممارسات الأكل، وقبول قواعد اللباس، وما إلى ذلك.

وبالنسبة للقارة السوداء، يهاجر غالبية الأفارقة اليوم داخل أفريقيا نحو قطبين رئيسيين من عوامل الجذب، وهما المغرب العربي، وجنوب أفريقيا، حيث تحدث 80٪ من حركات الهجرة الأفريقية داخلها.

 

الهجرة والاقتصاد

من الضرورة بمكان تحديد آثار الهجرة على الاقتصاد بشكل عام، وتأثيراتها على الحسابات الحكومية،  وبالنسبة للإدارات، تتطلب الهجرة تكلفة عالية، ومن الضروري الترحيب بالمهاجرين وإيواؤهم وتعليمهم اللغة الوطنية، وإيجاد عمل لهم، ودفع تعويض لطالبي اللجوء، ووضع أطفالهم في المدرسة، وفي ألمانيا على سبيل المثال، أشار معهد الأبحاث الاقتصادية  إلى أن تكلفة المهاجر الواحد الإجمالية تبلغ 1800 يورو سنوياً، تدفعها مصلحة الضرائب، ويتمتع المهاجرون الألمان الجدد أيضاً بمؤهلات أقل بكثير من الألمان والمهاجرين الآخرين وفقاً لبنك Bundesbank، وللوصول إلى هذا الهدف المتوسط​​، أنفقت ألمانيا 8 مليارات يورو على الاستقبال في عام 2015، و20 مليار يورو على الهجرة في عام 2018 فقط.

في الولايات المتحدة، أرض الهجرة بامتياز، يقترب معدل بطالة المهاجرين من المتوسط ​​الوطني ببساطة، لأن الحماية الاجتماعية منخفضة، ولا يستطيع المهاجرون الاعتماد عليها للعيش والبقاء، هل هذا يعني أنه يجب الاختيار بين دولة الرفاهية والهجرة؟.
من خلال الهجرة تم الحفاظ على القطاعات المهددة بالمنافسة الخارجية مثل المنسوجات والسيارات، ولكن لاحقاً أصبحت هذه الهجرة عديمة الفائدة، لأن الأنشطة التكنولوجية المتوسطة والعالية هي التي تحافظ على القطاعات في البلاد، وتتطلب قوة عاملة أكثر تأهيلاً لا توفرها الهجرة، وبالفعل فقد لاحظ الاقتصاديون اليساريون أن المهاجرين يشغلون وظائف منخفضة المهارة، ما يضر بالعمال الأصليين ذوي المهارات المتدنية الذين هم أيضاً خاسرون من هذه الآلية التي تفيد المهاجرين أنفسهم.

إن من أهم مطالب المهاجرين العثور على عمل، وهذا ما يدفع  شركات الاستثمار لتحسين جودة منتجاتهم وقدرتهم التنافسية لجذب المهاجرين لزيادة الإنتاجية، أو تحسين جودة السلع والخدمات، لأن الدول التي استخدمت الهجرة على نطاق واسع لديها عجز تجاري هيكلي (الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا)، وقد لا يكون ذلك عن طريق الصدفة، وبالتالي، فإن الهجرة الاقتصادية هي سياسة قصيرة الأجل تتجنب الإنفاق الفوري على التدريب، واكتساب الأدوات الآلية، وما إلى ذلك، ولكنها لا تجلب في النهاية سوى القليل من القيمة المضافة على المدى الطويل، كما يمكن القول حول هذه النقطة إن استخدام الهجرة لأغراض اقتصادية هو حلقة لا نهاية لها.

في ظل هذه الظروف فإن الانقطاع عن الهجرة مؤلم، ولكن تمديده يمكن أن يكون أكثر من ذلك، ولهذا السبب تسعى بعض البلدان لاستعادة السيطرة على حدودها، ولا تتردد في الحد من المهاجرين غير الشرعيين أو منعهم أو حتى طردهم بشكل جماعي، فرنسا مثلاً ودول أوروبا الغربية هي من بين الدول الأكثر سخاء، على عكس ماليزيا ونيجيريا واستراليا والمجر وايطاليا والدول العربية والدول من أوروبا الشرقية أو الولايات المتحدة أو المكسيك التي أعادت 15000 مهاجر غير شرعي من أمريكا الوسطى تحت ضغط من دونالد ترامب.

 

الهجرة والديمغرافيا

الهجرة هي واحدة من أكثر الوسائل فعالية لزيادة عدد السكان، لكنها لا تضمن بالضرورة الحيوية الديمغرافية للبلد، والاعتماد على الهجرة لتجديد شباب بلد ما هو صحيح جزئياً فقط، لأنه على الرغم من أن معدل الخصوبة أعلى قليلاً بين المهاجرين من الجنوب إلى الشمال عنه بين المواطنين، فإن المهاجرين يتقدمون في العمر مثل أي شخص آخر، فالمسألة الأساسية هي شيخوخة أغلبية سكان العالم الذين يجب أن يجدوا حلولاً لمشكلة عدم تجديد الأجيال، ولأن جميع سياسات الولادة لها معدلات فشل عالية، فإن الإجابات اليوم تميل نحو الهجرة أو الذكاء الاصطناعي أو حلول أخرى غير موجودة بعد، وفي الوقت الراهن من غير المتصور رؤية الخصوبة تعود إلى عتبة تجديد الجيل، أي بين 2.05 و 2.1 طفل لكل امرأة في البلدان المتقدمة، وبالتالي فإن انخفاض عدد السكان أمر لا مفر منه.