اقتصادصحيفة البعث

الانتقال من اقتصاد العجز إلى اقتصاد فائض القوة مرهون بوجود إدارة حكيمة؟!

قسيم دحدل

إن مجتمعاً تحكمه مؤسّسات حكيمة ورشيدة وخبيرة تنهج نهجاً أخلاقياً وطنياً هو مجتمع قويّ لا تخرقه أعتى الهجمات المبرمجة مهما عظمت. لذلك علينا جميعاً أن نساهم بتشكيل مجتمع المؤسسات، وتوطيد أركانه الاقتصادية، وعليه فإنه يمكن لاقتصاد متنوّع مثل الاقتصاد السوري، أن يحقّق قدرة اقتصادية تجعله قادراً على طباعة نقود وطنية قابلة للتحويل عالمياً، بسبب القدرة الإبرائية العالية (ثقة الناس بالنقود الوطنية) التي يكفلها اقتصاد محصن. فوجود الأراضي الزراعية الواسعة وخبرات المزارع السوري، مع مناجم الثروة الباطنية من معدنية وغيرها، إضافة للموقع المهم مع تراكم حنكة السوريين، تجعل وصولنا لاقتصاد القوة الإبرائية الأعلى سهل المنال.

بهذه العناوين المختزلة أعلاه، يقدّم الخبير الاقتصادي والقانوني سامر الحلاق، كيفية تقوية اقتصادنا الوطني..

تتحدد بمدى..؟

وتوضيحاً، يرى الحلاق، أن قوة الاقتصاديات على المستوى الداخلي تتحدّد بمدى قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي لمواطنيها، وكلما كانت نسبة الاكتفاء الذاتي عالية كلما كان الاقتصاد أكثر قوة، لأن قوة الاقتصاد تتناسب طرداً مع قدرته على تحقيق الاكتفاء الذاتي لمواطنيه. كما أن قوة الاقتصاد على المستوى الخارجي، تتحدّد بمدى قدرته على شراء مستورداته من دون استدانة مالية خارجية ولا حتى بواسطة سندات خزينة داخلية، أي بقدرته على شراء حاجاته المستوردة من خلال قدرته على زيادة فائض صادراته الناتجة عن إنتاج أو تصنيع محلي أو خدمات جاذبة  مثلاً، (جذب السياحة الخارجية الوافدة)، كالسياحة العلاجية والثقافية وسياحة المؤتمرات.. الخ.

وبقدر قدرته..؟

كما أن قوة الاقتصاد العام تزداد، بقدر قدرته على تخفيض نسبة البطالة لقوة العمل لديه..

إضافة لما سبق، يؤكد الحلاق أن زيادة تحويلات المغتربين الموجودين في دول الاغتراب، هي قوة اقتصادية، ولكونها قوة اغترابية فهي طاقة غير ناضبة، إذا تمّ تنظيم وترتيب تحويلاتها، بحيث تتحوّل إلى مورد دائم يتزايد مع الزمن، إضافة للاستفادة من طاقة المغتربين العلمية والتكنولوجية والمالية والخبرات في مجالات الاستثمار بأنواعه في بلدهم الأم.

أثافي” القدرة..!

ويبيّن الحلاق أن الدول والاقتصاديات القادرة على تحقيق قوة كبرى اقتصادياً، ليست كثيرة العدد، وذلك يعود لأسباب كثيرة، منها عدم وجود مفردات اقتصادية مهمة، أو سيطرة الفساد الأخلاقي والاجتماعي لديها، أو وجودها في أسفل درجات الارتقاء الفكر المتطور.

ومع ذلك فإن الاقتصاديات لا تقف عند القدر المحتوم، بل تتحرك نحو الانتقال إلى درجات ارتقاء اقتصادي لتشبع رغبات المجتمع المتزايدة باطراد، ومن أمثلة الدول التي لم تتعلق على القدر المحتوم: اليابان وسويسرا وكوريا..، فمثلاً سويسرا تستثمر مزارع الكاكاو في أفريقيا وتستورد منتجاته لتقوم بتصنيعه في سويسرا بجودة عالية وفاخرة، لتقوم بعدها بتصديره إلى دول العالم بقيمة مضافة عالية جداً، لتُدخِل على اقتصادها عشرات المليارات من اليورو كصافي ربح من هذا القطاع سنوياً، علماً أن سويسرا لا تزرع الكاكاو في بلادها، إنما حنكة وخبرة وإرادة الصانع السويسري، جعلته يحقّق نقلة نوعية اقتصادية لبلاده، وفي المثال الياباني، حيث تستثمر اليابان مزارع المطاط خارج بلادها وتشتري النفايات النفطية لتصنع إطارات عالية الجودة للآليات والطائرات، وتحقق قيمة مضافة عالية للتصدير وبقيمة صافية تتجاوز 90 مليار دولار سنوياً في هذا القطاع وحده، إضافة للدعاية الكبرى التي تقدمها للصناعة اليابانية كعامل نفسي يزيد البيع التصنيعي، أما كوريا، فهي لا تمتلك ثروات باطنية أو طبيعية، لكن تستطيع تحويل 1 طن حديد مثلاً إلى سيارة متطورة مع فارق قيمة تجميعية مضافة تصل إلى 6000 دولار كصافي ربح في كل سيارة تصديرية، والأمثلة تطول.

مرهونة..؟

أما الدول التي لديها ثروات طبيعية وجوفية، وموقع جغرافي اقتصادي، فإن قدرة انتقالها إلى الاقتصاديات القوية – بحسب الحلاق – هي قدرة موجودة أصلاً، وتكون الحاجة للانتقال مرهونة بوجود إرادة وطنية وإدارة حكيمة. فمثلاً بالنسبة للاقتصاد الذي يشبه الاقتصاد السوري، والجغرافية السورية الطبيعية والتراكم للخبرات عبر حقبات وعصور، فإننا نؤكد أن الانطلاقة والنهوض محققة بفعل المكونات الإيجابية الكبيرة.

إرادة تصنيع..

إن إرادة تصنيع كل المنتجات الأولية ذات المنشأ السوري، وتصديرها إلى باقي الدول، يحقق قيمة مضافة تجميعية اقتصادية عالية، ترفد الخزينة بالقطع الأجنبي اللازم لاستيراد مستلزمات الدولة السورية، ناهيك عن امتصاص البطالة، بدلاً من أن تقوم بتصدير الخام بأسعار بخسة واستيرادها بأعلى الأسعار، وإبقاء البطالة ونسبتها المرتفعة، القاتلة للاقتصاد.

ميزة تفضيلية..؟

إن توافر المدخلات التصنيعية في سورية (ودونما الحاجة لاستيرادها بالقطع الأجنبي النادر) وبكافة أنواعها الزراعية والمعدنية وو.. إلخ، يعطي ميزة تفضيلية لنمو الاقتصاد بشكل هائل، فمثلاً.. إن تصنيع القطن السوري وتحويل كامل الإنتاج إلى ملبوسات ثم تصديرها، يُدخِل إلى الخزينة أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً كقيمة مضافة، بينما تصديره خاماً أو محلوجاً يكون مردوده أقل بكثير، إضافة لعنصر عدم تشغيل يد عاملة خبيرة ومدربة اكتسبت خبرة تراكمية عبر عصور التاريخ.

وما يقال عن القطن، ينسحب على الفواكه والنفط، حيث إن تكرير النفط وبيعه مشتقات ناجزة يحقق مداخيل أكبر بكثير من بيعه كخام، كما أن تحويل الجامعات السورية إلى نقطة جذب علمي للطلاب الأجانب يحقق مداخيل هائلة بالقطع الأجنبي.

أوراق رابحة..

إن الاقتصاد السوري اقتصاد متنوع ومتعدّد، أي لا يعتمد على ورقة رابحة واحدة، بل لديه أوراق رابحة كثيرة: المرافئ والموانئ السورية تخدم إقليم الشرق الأوسط، وأنواع كثيرة التنوع، ثرواته الباطنية والسطحية، تجعله في مأمن من عوز واحتكار الدول العالمية، كما أن القدرات البشرية الخبيرة بكافة أنشطة الاقتصاد، تمنع عنه فكرة العوز والحاجة لدعم الآخرين.

بـ 10 غرامات ذهب

إن المشاريع الصغيرة أو المتناهية الصغر، والتي لا تتجاوز تكلفتها 10 غرامات ذهب، هي مشاريع إستراتيجية لأنها تمتصّ البطالة وتجعلها منتجة وتحرك الاقتصاد ككل، بسبب مضامينها للأغلبية من المواطنين. كما يؤكد الحلاق على أن قدرة النقود الوطنية لأي دولة، تتعزز أكثر كلما ازدادت القدرة لدى اقتصادها على الاكتفاء الذاتي وعلى التصدير لجلب القطع الأجنبي اللازم لاستيراد حاجياتها، فمثلاً إذا كان الميزان التجاري لدولة ما = صفر..، فهذا يعني أنها ليست في عجز خارجي، وبالتالي تستطيع طباعة ما تشاء من النقود الوطنية ودونما أي سقف، لتنشيط اقتصادها، مادام ميزانها التجاري بعيداً عن العجز، وهذا هو الحل لكي ننتقل من اقتصاد العجز إلى اقتصاد فائض القوة الاقتصادية.

ويبيّن الحلاق قائلاً: مثلاً الولايات المتحدة الأميركية ومنذ 1972 ألغت ربط عملتها الوطنية بالذهب، وأصبح الدولار يعتمد على قوة وهيبة أميركا الاقتصادية وليس على التغطية الذهبية للدولار، وبذلك فهي تطبع سنوياً تريليونات الدولارات من دون تغطية.

وعليه فإنه يمكن لاقتصاد متنوّع مثل الاقتصاد السوري أن يحقّق قدرة اقتصادية تجعله قادراً على طباعة نقود وطنية قابلة للتحويل عالمياً، بسبب القدرة الابرائية العالية (ثقة الناس بالنقود الوطنية)، التي يكفلها اقتصاد محصن.. ووجود الأراضي الزراعية الواسعة وخبرات المزارع السوري..، مع مناجم معدنية ورخامية وأحجار ومواد بناء وموقع مهم مع تراكم حنكة السوريين، تجعل وصولنا لاقتصاد القوة الابرائية الأعلى سهل المنال.

qassim1965@gmail.com