ثقافةصحيفة البعث

مهرجان “عمر أبو ريشة” يحتفي بالشاعر “عمر أبو قوس”

حلب- غالية خوجة:

يعيدنا مهرجان “عمر أبو ريشة”، الذي انتهت فعالياته مؤخراً، إلى شعر القرن العشرين في مدينة حلب بثيمته الفنية الكلاسيكية والحداثية، وثيمته الموضوعية المتمحورة حول الوطن والحب والإنسان، ونموذجها الشاعر الدبلوماسي “عمر أبو ريشة” الذي احتفت به حلب ومازالت، ويأتي هذا العام ليضيء تجربة الشاعر “عمر أبو قوس” (1913ـ1981) الذي بدأ بنشر قصائده ودواوينه منذ الثلاثينيات، ومنها ديوان (العيون الخضر/1936)، وديوان (وحي لليل/ 1948)، وديوان (جراح القلب/1970)، وديوان (حروف من نار/ الصادر عام 1946) الذي تغنّى بقصائده هنانو ورفاقه، كما تغنت بها الجماهير في احتفالاتها ومظاهراتها المناهضة للاستعمار، وديوان (بعض أشعاري/ الصادر عام 1974).

واحتفاء بنتاج الشاعر “عمر أبو قوس”، تستعيد وزارة الثقافة- مديرية الثقافة بحلب، على منصة المركز الثقافي العربي بالعزيزية، الحضور الحياتي والإبداعي على مدى خمسة أيام (15-19-2020)، تبدأ بتكريم بعض الشخصيات الأدبية والفكرية والفنية التشكيلية بمدينة حلب، وهم: جلال قضيماتي، عبدو محمد، لوسي مقصود، نادر عقاد، محمود علي السعيد، محسن خانجي، د. عيسى العاكوب.

عن هذه الفعالية قال جابر الساجور مدير الثقافة: هذا المهرجان نوع من التكريم للجميع، وخصوصاً أنه دوري، والتكريم يوطد جسور التقدير والامتنان بين المكرّم والجهة الراعية للأدباء والمثقفين والمبدعين في الوطن، إنه، باختصار، قيمة إنسانية.

ثم يلي التكريم العرض المسرحي (المكابدة والأمل مع “عمر أبو قوس”)، تأليف د. فايز الداية، إخراج جمال خلو، مساعدة المخرج ضحى عساف، تمثيل: سمير الطويل، نغم كوجاك، إدريس عطار، راما كرطة، محمود نحاس، جهاد خربوطلي، واجد صباغ، همام يازجي، والفنيون: عمار قمري، محمد علي إبراهيم.

تتكون المسرحية، كما يقول مؤلفها الداية، من لوحات درامية تعرض مواقف فارقة في حياة “عمر أبو قوس”، بدءاً من شبابه في الحي الحلبي، عبوراً بمرحلة احتماله المسؤوليات، وكهلاً هدأت خطواته، ولكن لم تهدأ رسائله الإبداعية، بينما أكد المخرج على محاولة المزج الكلامي والتوثيقي والموسيقي والبؤر الدرامية بأسلوب فني يستخرج إمكانات الدراما رغم مساحة المنصة الصغيرة.

جلسة حوارية نقدية

يركز اليوم الثاني على ندوة نقدية بعنوان “شعر عمر أبو قوس”، ويشارك فيها كل من: د. أحمد زياد محبك، د. رتيبة موقع، د. محمد حسن عبد المحسن، د. فايز الداية مشاركاً ومديراً للندوة الحوارية.

وصرح د. محبك لـ “البعث” قائلاً: عنوان مشاركتي “لوحات فنية باللغة والأحلام في شعر عمر أبو قوس”، ورأيت كيف يصور في قصائده الطويلة لوحات شعرية عمادها الأحلام في محاولة منه للتجديد، ومن ذلك لوحة تصور طفلاً عمره سنتان يتأمل اللوحة المعلّقة على الجدار، وسرعان ما يخرج من اللوحة ويتقدم منه، ويصير عمره عشر سنوات، فيفرح به الشاعر المحروم من الأولاد، ولكن بسرعة أيضاً يصغر الطفل ويرجع إلى مكانه في اللوحة، نجده يصور حبه للكون والكائنات، معبّراً عن اعتقاده بأن الروح واحدة تسري في جميع المخلوقات، و”أبو قوس” شاعر يحاول التجديد، لكن لغته عادية مباشرة، وصوره الفنية مألوفة.

خالد بن الوليد ومرايا “عمر أبو ريشة”

في اليوم الثالث يقدم الباحث محمد قجة محاضرة بعنوان “خالد بن الوليد في مرآة شعر عمر أبو ريشة”، وتحدث فيها أنها تتضمن ثلاثة محاور: الأول: عصر خالد بن الوليد ودوره كقائد عسكري وأبرز أعماله، والثاني: أبو ريشة ودوره في الشعر التراثي التاريخي ولمحة عن شعره، والثالث: قراءة معرفية وفنية في قصيدة “خالد” للشاعر “عمر أبو ريشة” وشرح أقسامها وإسقاطاتها المعاصرة.

ويختتم المهرجان يوميه الأخيرين بأمسيتين شعريتين يشارك فيهما توالياً كل من: فرهود الأحمد، ابتهال معراوي، ضحى عساف، وفاء شربتجي، أديل برشيني، منى بدوي، حسين هنداوي، محمد حجازي، عبيدة طراب رفاعي، عبد الجواد الصالح، رولا عبد الحميد، ميادة مكانسي.

شاعر كلاسيكي يفلسف التصوف

على هامش المتن، رأيت أن أضيء ظلاً من ظلال الشاعر الحلبي “عمر أبو قوس”، من عائلة متصوفة، ساهم في تعليم نفسه الأبجدية، ثم تعليمها وتثقيفها، اشتُهر بالشاعر المناضل الشعبي، نظم الشعر في الرابعة عشرة من عمره، وغنّى له العديد من المغنين والمنشدين في إذاعة حلب، لاسيما أن قصائده متصوفة، وقومية، وإنسانية، ووطنية، أسس جمعية التضامن الخيري، وكان وهو طالب في الثانوية أحد خطباء الكتلة الوطنية بزعامة إبراهيم هنانو، إضافة للشاعر “عمر أبو ريشة” الذي كان صديقه أيضاً، وبعد حصوله على البكالوريا عام 1933، عيّن معلماً 1934، واستمر لغاية 1946، إلى أن طلب نقله إلى وزارة الداخلية ليصبح منشئاً في ديوان محافظة حلب، ثم مديراً للمطبوعات والإذاعة، ثم مدير ناحية حتى عام 1959، وهو عام التسريح من الخدمة.

تتسم قصائده بموسيقاها البحورية، وبمعانيها الكلاسيكية غالباً، والمتعددة أحياناً، والناتجة عن رؤاه الشعرية ودلالاتها ضمن النسق اليومي والوطني والصوفي والفلسفي، ومنها قصيدته “أنا والبحر” التي يبدؤها مخاطباً رمزية البحر من خلال مخاطبته للكتاب الذي يتحرك بين الفناء والوجود: “يا كتاباً يفنى الزمان ويبقى، إن في صمتك الرهيب لنُطقا”، ثم يستدرج الشاعر البحر والكتاب من “الصمت الرهيب” العميق إلى الحديث عن الماضي المخبوء بين كلمات موجاته وأعماقه وصمته: “هاتِ حدّث عن الوجود قديماً، واروِ عنه ما كان حقاً وصدقاً”، ليتكاشف مع البحر وكأنهما “أنا” واحدة، تعرف ما جرى، وتعزف ما يُرى وما لا يُرى، وتجذب الأمواج والآخرين إلى الطبيعة الغامضة: “والملايين من جوارك جاؤوا، ثم راحوا في لجّة الموت غرقى”، نلاحظ كم هي عميقة هذه الصورة الشعرية (الصورة اللجّة) بإشارتها إلى سرعة الزوال والفناء حتى تلاشي الأحلام والموجودات بين الغرق والموت.

ثم ينتقل بنا الشاعر من العمق الغريق للبحر إلى العمق العالي في السماء من خلال حضور أسراب الطير المحلّقة التي لا تلبث أن تغرق غياباً في الأفق: “حلّقت في الفضاء أسراب طير، ثم غابت والأفق ما زال أفقاً”.

أثناء عودة الشاعر من أعماق الأزرقَيْن (البحر) و(السماء)، نراه يتكاشف مع أعماقه متعددة البحور، مفصحاً للبحر عن كينونته الإنسانية المتشابهة في أعماق كل إنسان نابض بالحب، متحدياً الغرق والبحر والأعماق ليتشابه مع كتاب موجاته تتلاطم من شدة الحب والكشف والغوص في لآلئ من صور القصيدة، وموسيقاها المختبئة في محارات منثورات بين موجة وموجة: “فيّ يا بحر لو علمت بحور، زاخرات يدفقن بالحب دفقا”.

وكم كان الصمت الفني جميلاً مع بروز “لو علمت” كاعتراضية يخاطب بها البحر، أو الكتاب، أو كليهما، ليكمل جملته الشعرية موضحاً للبحر عن أعماقه الزاخرات المائجات بسمو الوجدان، مؤكداً في بيته اللاحق على ضيق الشعر باتساع الحب رغم رحابة الشعر: “أي شعر يحيط يوماً بحب، جمع العالمين غرباً وشرقاً”، متابعاً وبتحد للأزرقين: “لو تكون البحار طراً مداداً، لكلامي وزادها الجو ودقاً، لانتهت كلها وشيكاً وظلت، كلماتي تفيض نوراً وحقاً”.

وتأتي الخاتمة بعد هذه الأبيات العاتيات المنتصرات للكلمة والشعر والكتاب والمحبة بطريقة تكويرية لتكمل القصيدة دورتها بين بدايتها وخاتمتها، وتعيد مخاطبة الشاعر للبحر: “أيها البحر كم تكابد شوقاً، للأعالي وكم تكابد رِقاً”، لنكتشف كيف أن البحر غارق في أعماقه أيضاً، ويسعى من شدة شفافيته إلى الخروج إلى السماء، لعله يكون مع أسراب الطير محلّقاً، ثم يشد البيت الأخير من القصيدة مرساة الموج، تاركاً العلائق المشهدية المتفلسفة خلفية موسيقية لامرئية، ليضعنا أمام التماثل بين البحر ورموزه ودلالاته ومعانيه المختلفة، والأنا الإنسانية التي يجسدها ضمير الشاعر، تلك الأنا المتأرجحة مثل شراع، والراغبة في التحرر من الغرق والتلاشي والفناء من أعماق الزرقة البحرية، وأعماق الزرقة السماوية، ولكن دون جدوى من التحليق ضد البقاء حتى لو كان وراء الأفق الغارق أفق جديد مشع، فقط، لأن الأفق أيضاً، ومهما توالد، سيغرق في لُجج الفناء: “أنت مثلي يا بحر ترجو انعتاقاً، وترى خلف أفقك الرحب أفقاً”.