مجلة البعث الأسبوعية

محطة درعا.. من هنا مر قطار الحجاز!!

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد العمار:

عربات توقفت هنا وأخرى هناك، لكنها تعايشت جميعا مع الصدأ والإهمال، وخطوط حديد لم تعد تنتسب لحاضرنا، بل حفرت قضبانها وصفائحها في تاريخ بعيد، فيما ظلت مباني المحطة البازلتية، ذوات الأسقف القرميدية الجميلة، شواهد حية على أهمية المكان، الذي عجّ ذات يوم بالركاب والبضائع.

كانت محطة القطار في درعا، بداية القرن الفائت، البوابة السككية الوحيدة جنوبا نحو الأردن ودول الخليج العربية، وشمالا نحو دمشق، إذ ربط أول خط حديدي عرفته البلاد إسطنبول بالحجاز، حيث الديار المقدسة، مرورا بالأردن، وتفرعا نحو فلسطين؛ وعبر هذا الربط السككي دون غيره، انتقل الحجيج من آسيا إلى تلك الديار، مختصرين زمن الرحلة من أربعين يوما إلى خمسة أيام.

بدأ العمل، فيما عرفت يومها بسكة حديد الحجاز، أو خط حديد الحجاز، أو الخط الحديدي الحجازي، عام 1900، وافتتح الخط بعد ثماني سنوات.. وكانت حركة النقل نشطة جدا، سيما بين دمشق والمدينة المنورة، حيث تمتد الرحلة بطول 1320 كم، عبر محطات: دمشق، درعا، عمان، معان، تبوك، مدائن صالح، المدينة المنورة.

لم يدم فرح بلدان المنطقة بهذا الخط الذي ربط الدول واختصر المسافات طويلا، فقد دمرته الحرب الأولى، عام 1916، وبإيعاز من الإنكليز، الذين عملوا – كعادتهم – جاهدين على وأد أي عمل، أو حتى حلم، يجمع هذا الشعب.. وهكذا لم تقم لهذا الخط – الأسطورة، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، قائمة، بل باتت مكوناته ومحطاته أقرب للتحف والآثار منها لوسائل النقل!

يقول سكان محليون إنهم سمعوا، عبر الآباء والآجداد، عن الدور الذي لعبته محطة القطار في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للجنوب السوري بشكل عام، ولمدينة درعا وما جاورها على وجه الخصوص؛ ويكفي، للدلالة على ذلك، أنها كانت سببا في نشوء حي كبير على طرف المدينة “درعا البلد” الشمالي، عُرف بـحي “المحطة”، ثم تفرع إلى عديد الأحياء التي هي اليوم أكبر من المدينة الأساسية، بل أصبحت مقرا إداريا وتنظيميا للمحافظة..

هكذا، سبقت المحطة نشوء الحي الذي توزعت بيوته، بداية الأمر، في مناطق وشوارع قريبة، لأن سكانه هم من الموظفين العاملين في تسيير شؤون القطار، وتأمين المسافرين، وشحن البضائع وتفريغها، إضافة لعناصر الشرطة “الدرك”، والحماية والحراسة والجمارك وغيرهم..

يقول رجل سبعيني من أهالي الحي، نقلا عن والده المتوفى، إن ذاكرة سكان المدينة ارتبطت بصافرات القطار الذي كان وصوله إلى محطته مفرحا، فهو يحمل لهم أخبارا من مناطق بعيدة، ومن العاصمة دمشق على وجه التحديد؛ فمعه، وبه، قرأوا الصحف التي غطت أخبار الحروب والأزمات، وتعاقب الحكومات السورية، ونشرت القرارات والمراسيم الجديدة، في زمن كانت وسائل الإعلام المقروءة سيدة الموقف، كما حمل القطار رسائل الأحباب والأصدقاء، في وقت حمل منتجات جديدة ليست معروفة لديهم، إذ انسابت السلع من آسيا والأناضول وشمال بلاد الشام والحجاز، وفي الاتجاهين، ليكون الناس القريبون من محطات القطار المختلفة هم من أول من يعرفها ويجربها..

اليوم، لا شيء في محطة درعا يوحي للزائر بأنه يقف أمام خط حديدي، فالمشهد البانورامي أقرب للفانتازيا.. للتراث.. للتاريخ، وأبعد ما يكون عن نقل الركاب والبضائع. لقد توقف قلب الخط، وبٌحت حنجرة قطاره، فلا هدير لمحركاته وعرباته التي أكلها الصدأ وتقادم الأيام، لتبقى شاهدا يؤرخ حقبة حضارية عرفت فيها مدن الشرق العربي – ومنها درعا – واحدة من أقدم خطوط الحديد في العالم، وليدخل الخط الحديدي الحجازي كتب وقصص الأطفال كحكاية، قد تصبح ذات يوم – مع الأسف – أقرب لحكايا “ألف ليلة وليلة”، و”السندباد”، و”آليس في بلاد العجائب”..!!