دراسات

نحو بناء أمن قومي عربي في ثوابت جديدة

د. رحيم هادي الشمخي/ كاتب عراقي

تمر الأمة العربية بأحداث سريعة لطمس هويتها الوطنية والقومية، وما حدث خلال السنوات الماضية وحتى الوقت الحاضر إنما يمثّل أكبر ضربة موجعة لوجود الأمة القومي من المحيط الأطلسي وحتى الخليج العربي، وخاصة بعد احتلال العراق عام 2003، والعدوان الأمريكي التركي الصهيوني على سورية العربية، وتدمير منجزات الشعب العربي السوري ونهب ثرواته النفطية وتعطيل حركتها العلمية والاقتصادية، وما جرى في اليمن وليبيا والصومال أكبر دليل على تمادي الدول الاستعمارية لاختراق الأمن القومي العربي الذي دعا إليه العرب منذ تأسيس الجامعة العربية.

فشل العرب منذ عام 1967 بعد هزيمة العرب الكبرى في حرب حزيران مع الكيان الصهيوني اللقيط، وبعدها اتفاقات العار مع الكيان المحتل، في صياغة استراتيجية أمنية قومية لمواجهة هذه الأخطار، لم يجدوا ما يحمي وجود شعوبهم وأرضهم وثرواتهم وكرامتهم وهويتهم من الاستلاب، وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن هناك مصدرين رئيسيين يهددان الأمن القومي العربي حالياً، المصدر الأول هو إسرائيل والقوى الصهيونية والامبريالية المساندة لها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والمصدر الثاني هو عدم قدرة النظام الدفاعي العربي، حتى الآن رغم هجمات إسرائيل العدوانية على الأقطار العربية، على مواجهة المصدر الأول، فإذا تعادلت قدرة النظام العربي مع قوة التهديد بلغنا نقطة توازن القوى، وان رجحت كفة قدرة النظام الدفاعي العربي، غدونا حينذاك مصدر التهديد لأمن إسرائيل، ويزداد خطر إسرائيل على أمننا القومي حينما ندرك بشكل جدي خطورة تسليح إسرائيل النووي، ففي دراسة أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية، تأتي إسرائيل على رأس الدول ذات القوة النووية المحدودة، وأن حجم قوتها يتراوح بين 16 و22 سلاحاً نووياً، يضاف إلى ذلك أن إسرائيل ستطلع وتشترك في إحدى مراحل تطور العلوم والتكنولوجيا في المجال العسكري نتيجة مساهمتها في “مبادرة الدفاع الاستراتيجي الأمريكية، حرب النجوم أو حرب الفضاء”.

هذه الإشارات تدلل على أن إسرائيل في الأصل والبدء هي المصدر الأكبر والأساسي والأول الذي يهدد الأمن القومي العربي مقابل انشغال العرب فيما بينهم في صراعات جانبية، وارتماء بعضهم في الحضن الأمريكي، بل والهرولة إلى عدوهم الكيان الصهيوني كما يحدث الآن في التطبيع العربي مع هذا الكيان اللقيط، وتقديم التسهيلات المادية والمعنوية له في شتى المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، وهكذا زادت المشكلات والأعباء أمام الأمن القومي العربي، وتكاثرت حتى أثقلت كاهله، وكان يعاني ولايزال من اختناقات وعثرات وصعوبات نشأت عن الوضع العربي المتمزق، حتى بلغ الأمر بالأمن القومي العربي أن غُيّب عن ساحة الوطن العربي، وطويت صفحته، ونكست أعلامه على رقة صفحته، وهزال إعلامه، وثمة ضرورة تحديد معنى هذا الخطر الداخلي، فالقدرة العربية هنا وفي الزمن الذي يبدأ في 15/5/1948، يوم دخول القوات العربية إلى فلسطين الحبيبة، ويمتد حتى اليوم، ليست هي قدرة الأمة العربية كلها، ولا قدرة الدول العربية كلها، فقد تمثّلت المواجهة حتى اليوم بخمس حروب، لم يحقق فيها الأمن القومي العربي أية هزيمة لإسرائيل، لأن النظام العربي هو الذي تعرّض للهزيمة ما أن يتعرّض للمواجهة مع هذا العدو المحتل لأرضنا العربية.

لقد أصبح من الأمور المؤكدة إلى حد البديهيات أن نرد عوامل انهيار الأمن القومي العربي إلى ثلاثة أسباب:

– غياب الإرادة العربية الواحدة، وهو غياب كامل تدنى إلى ما دون الحد الأدنى في التنسيق بين الإرادات المتعددة، ولهذا السبب نرد عجز السلام العربي وعدم قدرته على الحركة إلى حد العطالة والشلل في المستوى القومي، وثمة اقتناع بأن المعضلة ليست في نقص الاستراتيجيات أو خطط العمل العربي المشترك، ولا في النصوص والاتفاقيات والمواثيق والقدرات، وإنما العلة كل العلة في غياب الإرادة العربية الواحدة، وفي بروز نقيضها وهو الإرادات العربية المتعددة.

– إهمال القوة الذاتية العربية، فتلاشى الوثوق بالقوة العربية لأنها غير تابعة لإرادة واحدة، وإنما هي شتات وأجزاء منفصلة، ولا رابط بينها ولا محرك واحداً لها، فتحلل الأمن القومي العربي وغابت معالمه، كما يجري اليوم في الوطن العربي، فتعثرت عناصر تكوينه، ومن هنا راح الأمن القطري يسعى إلى الحماية في ظل قوة أخرى غير عربية، كما يجري في دول الخليج العربي، وكان نتيجة ذلك أن ازدادت روابط التبعية للقوى الخارجية.

– عدم القدرة على صناعة الأسلحة قطرياً، ذلك أن الاكتفاء الذاتي العربي بصناعة الأسلحة والمعدات الحربية، ماعدا تلك الأسلحة ذات التكنولوجيا المعقدة والمتطورة، أصبح أمراً لابد من تحقيقه، فقد أثبتت وقائع تاريخ الصراع العربي الصهيوني أن التسليح العربي من مصادر خارجية لابد أن يخضع مجريات ذلك الصراع في مرحلة من مراحله إلى إرادة الدول البائعة للسلام، وقد تتحكم هذه بتلك المجريات سواء الحربية فيها أو السياسية، إضافة إلى الثروات والطاقات العربية التي تذهب سدى وهدراً، في مقابل شراء الأسلحة، وتتحكم مصادرها بأسعارها الباهظة جداً، وقد أصبح من نافلة القول التأكيد بأن إمكانات إقامة صناعة سلاحية متطورة على المستوى القومي متوافرة بشكل جيد.

ولكي ننشد بناء نظام للأمن القومي، وهو نظام يتجاوز بكثير الأمن الإقليمي القائم على الجوار، ويتخطى مفهوم حق الدفاع الشرعي الجماعي الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة، ويهدف إلى الدفاع عن الأمة العربية وأمنها في هذه المرحلة، ويستند إلى مفهوم المصير الواحد، على هذا ليس الأمن القومي بديلاً لسياسات الأمن الوطني للدول العربية، وإنما هو يتخطى الشعب والأمة والقطر إلى الوطن العربي كله، وبهذا نستطيع أن نبني الأمن القومي العربي في ثوابت جديدة لمقاومة العدوان الأمريكي الصهيوني التركي على وطننا العربي.