ثقافةصحيفة البعث

“تعريب التعليم الطبي”.. محاضرة في مجمع اللغة العربية

تُثبت اللغة العربية على الدوام قدرتها على تعريب المصطلحات الحديثة ودخول المجالات المتجددة والمختلفة، وذلك بفضل فرسانها المؤمنين بها، ومرشد خاطر هو أحد أولئك الذين أسهموا في خدمة اللغة العربية تدريساً وتأليفاً وترجمةً وتعريباً. وعنه  جاءت المحاضرة التي قدّمها مؤخراً الباحث أحمد بوبس في مجمع اللغة العربية تحت عنوان (اللغة العربية وتعريب التعليم الطبي.. مرشد خاطر أنموذجاً) وابتدأها بالقول: لغتنا العربية هي لغة حيّة متجدّدة، وهي الحصن الحصين لأمتنا وعروبتنا، ودائماً  ترتقي الأمة بارتقاء لغتها وتنحدر بانحدارها وإذا استهترت أمة بلغتها فإنها لاشك يصيبها الضياع أو تدانيه، وبعض مما تعاني منه أمتنا اليوم ناجم عن إهمالها للغتها واستهتارها بها.

لغة الحياة   

أوضح بوبس أن لغتنا العربية استطاعت عبر تاريخها الطويل استيعاب الحضارات الإنسانية، فقد نقل العلماء العرب قديماً معارف وعلوم الحضارات المختلفة إلى العربية فاستوعبتها، ثم في عصر الازدهار العربي وضع العلماء العرب وباللغة العربية النظريات والأبحاث وألفوا الكتب في العلوم المختلفة، بل ابتكروا علوماً جديدة ودخلت المصطلحات العلمية العربية اللغات الأوربية بلفظها العربي مثل الجبر والخوارزمية والعود واللوغاريتم، ولكن بعد كل هذه المنجزات هناك من يقول إن اللغة العربية غير قادرة على استيعاب المعطيات العلمية والتقنية الحديثة، ليأتي الردّ الحاسم على هذا القول على يد الدكتور مرشد خاطر الذي كان له الفضل الأول في تعريب مناهج تدريس الطب في المعهد الطبي العربي بدمشق الذي تحوّل فيما بعد إلى كلية الطب في دمشق، ومن ثم كلية الطب الوحيدة التي تدرّس علم الطب الحديث بلغة الضاد.

وتابع بوبس: بدأت الحكاية حين طُلب من الدكتور رضا سعيد إنشاء معهد طبي في دمشق، فقام بوضع شرط أن يكون التدريس فيه باللغة العربية حيث كان تفكيره يتجه صوب الدكتور مرشد خاطر الذي سيكون الحامل الأساس لعملية تعريب مناهج تدريس الطب في المعهد، والذي تمّ اختياره بناءً على ميزتين مهمتين تتوافران لديه وهما إتقانه المطلق للغة العربية وإتقانه المماثل للغة الفرنسية، وطبعاً لم يكن مرشد خاطر الوحيد في عملية التعريب بل كان معه فريق عمل، وكان على رأس مجموعة تنفذ أفكاره وتوجهاته في هذا المجال.

عملية التعريب

أما ما يخصّ جوانب عملية تعريب التعليم الطبي فقد كان هناك ثلاثة جوانب-كما ذكر بوبس- أولها إلقاء المحاضرات باللغة العربية، حيث كانت هناك جهود خلاقة ومضنية بذلها الدكتور مرشد خاطر وهو يتصدّى لعملية تدريس الطب في المعهد باللغة العربية، وكان معظم أساتذة المعهد يعانون من ضعف باللغة العربية لدرجة الركاكة، لذا قام خاطر بمساعدتهم وتصحيح محاضراتهم لغوياً ليقوم الأستاذ بدوره بحفظها وتقديمها، وثانيها المؤلفات الطبية، وقد اعتمد مرشد خاطر على نوعين من التعريب: الأول الترجمة والثاني التأليف، حيث سعى في كتبه المترجمة إلى تحري المعنى الصحيح لكل مصطلح أجنبي من مصطلحات المعجم وإيجاد المقابل العربي له والموافق لمعنى المصطلح الأجنبي معتمداً على قواعد اللغة العربية، وترجم عدداً من الكتب والمعاجم الطبية بمساعدة عدد من أساتذة المعهد الطبي، مثل كتاب “السريريات والمداواة الطبية” و”معجم المصطلحات الطبية الكثير اللغات” وغيرها من الكتب. وبالنسبة للتأليف اتبع طريقته نفسها في الترجمة فيما يتعلق بالمصطلحات، وكانت صياغته العربية على درجة عالية من الدقة في المعنى والمبنى بطريقة واضحة وسهلة حتى للقارئ غير المختص. ومن بعض مؤلفاته: “فن التمريض”، “إصلاح النسل”، “موجز الأمراض الجراحية”، و”معجم العلوم الطبية”.. وغيرها. أما ثالث جوانب عملية التعريب فهي مجلة المعهد الطبي التي أسّسها وترأس تحريرها مرشد خاطر طيلة مدة صدورها، وكانت وسيلة مهمّة لتشجيع البحث الطبي باللغة العربية، فقد أُتيحت لأساتذة المعهد الطبي وغيرهم وشجّعتهم على وضع الدراسات والأبحاث الطبية باللغة العربية، وكان خاطر الوحيد في المجلة، فهو يقوم بتنقيح تلك الدراسات والبحوث لغوياً، وقد شجّعت المجلة أيضاً أولئك الأطباء على خوض غمار تعريب المصطلحات الطبية، وكانت تنشر نتاجاتهم في هذا الجانب.

خطوة ناجحة

كما لفت بوبس إلى أن تعريب التعليم الطبي في دمشق كان خطوة ناجحة بامتياز، فقد استطاع خلال سنوات قليلة أن يفرض نفسه وأن ينال الاعتراف على الصعيد العربي والأجنبي، وبدأت حكاية هذا الاعتراف حين شارك وفدٌ من المعهد الطبي بدمشق برئاسة الدكتور رضا سعيد في مؤتمر دولي طبي في القاهرة، حيث تمّ عرض المؤلفات الطبية الصادرة عن المعهد لإثبات صلاحية اللغة العربية للكتابة الطبية، وما لبثت أن ترسّخت القناعة بنجاح التعليم الطبي باللغة العربية تدريجياً، وصولاً إلى الاعتراف بشهادة المعهد الطبي العربي من مصر ولحقتها كافة الدول العربية تباعاً، ثم مع الوقت نال تعليم الطب باللغة العربية مشروعيته العالمية، وأثبت أن اللغة العربية هي لغة حيّة ومتجدّدة وقادرة على استيعاب مستجدات العلوم الحديثة، وكل ذلك بفضل جهود مرشد خاطر وتفانيه.

لوردا فوزي