مجلة البعث الأسبوعية

“أخذ الأعضاء من المتوفين دماغياً” مشروع وطني وإنساني وضرورةً مُلحة منعاً للاستغلال والمتاجرة بأوجاع الناس.

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدرة

هناكَ ألفا مريض جديد سنوياً يعانون من القصورٍ الكلويٍّ في سورية، إضافةً إلى مئتين إلى ثلاثمائة من مرضى الكبد، ومثلهم لمرضى القلب. وفي حين يتوفى معظم هؤلاء لأنه لا حل أمامهم إلاَّ زرع الأعضاء، هناك “جلسات الغسيل” لمرضى الكلية، وهو نوع من الحل “رغم أنه يبقى مؤقتاَ، ورغم أنَّ مرضى كثيرين لا يقوون على تحمله. ولكن ما حدث خلال فترة الحرب أن أعداد المحتاجين للأعضاء “مدنيين وعسكريين” ارتفعت بشكل هائل، وقد أُرسل البعض منهم للعلاج وإجراء عمليات الزرع خارج القطر، وهو أمرٌ مكلفٌ جداً، إضافةً إلى مصاعبه اللوجستية، وربما عدم جدواه أو خطورته. وقد كانت الهند – سابقاً – وجهة سوريين كثيرين أرادوا إجراء عملية زرع كلية، لكن ما حصل هو أنهم كانوا عرضةً للاستغلال، بسبب رواج تجارة الأعضاء هناك، فلا يكاد يمضي أسبوع أو أسبوعين على إجراء العملية، وعودة المريض من رحلة العلاج، حتى يعاوده الفشلٍ الكلويٍّ، بعد أن يكون قد دفع مبالغ طائلة، لأن الغاية الأساسية للبعض هناك هي الحصول على ثمن الكلية!

 

فوق المرض.. استغلال بشع!!

وعلى كل حال، ليس الأمر في سورية أقل بشاعة وفجائعية، فمنذ حوالي سبعة أشهر، أقدمت إحدى السيدات على التبرع لصهرها بكليتها “لكي لا يطلق زوجته.. (ابنتها)!”، علماً أنه متزوج من أربعة!! وكان الاتفاق أن يسجل لزوجته نصف البيت.. وهو ما لن يحدث طبعاً، ليتم الاكتفاء بعدم تطليقها “مشكوراً”! وهنا، لا بد أن نشير، خاصة، إلى القرار الصادر عام 2008، والذي يمنع الأنثى من التبرع إلا لأقاربها من الدرجة الأولى، لأن هناك من كان يستغلها أحياناً كثيرة. غير أن الاستغلال في مثل هذه الحالات لا يعرف حدوداً، ولا أشكالاً محددة، وله صور كثيرة، فالبعض – ومن باب الاطمئنان على صحته مثلاً – يُوهم مريضاً بالكلية أنه موافق على التبرع له بإحدى كليتيه، ويتم الاتفاق على هذا الأساس، وتُنجز الأمور بشكل قانوني، وتُجرى كل التحاليل والصور المطلوبة – وهي مُكلفة جداً وتصل إلى مليوني ليرة سورية، وتكون على حساب الآخذ – ليقوم بعدها المُعطي بالانسحاب من الاتفاق، وهذا ما جرى فعلياً مع أحد المرضى! أيضاً، قام أحدهم بكسر شريحة هاتفه الجوال، وتوارى عن الأنظار مع بدء التحضير للعملية، بعد أن كان قد استنزف “الآخذ” مادياً من خلال طلبه مبالغ ضخمة، بين فترةٍ وأخرى، وبحججٍ واهيةٍ، إضافةً إلى أخذه “عربوناً قبل العملية بساعات”! وعندما بادر أحد المرضى، في حادثة أخرى، لتقديم شكوى بتعرضه للنصب من قبل شخصٍ أوهمه بأنه سيعطيه إحدى كليته، كانت النتيجة سجنه، لأنه يُعتبر شريكاً في جريمة!! فعمليات التبرع – كما هو معروف – تتم عند كاتب بالعدل، في المحكمة، ومن دون مقابل مادي، وهذا ما يجعل الكثيرين عرضةً للاستغلال، وضحية سهلة للتلاعب والسمسرة!

 

عود على بدء

سجلت أول عملية زرع كلية في سورية في العام 1985، من “متبرع حي قريب”. وكان عدد العمليات التي تُجرى سنوياً، وقتها، يترواح من 5 إلى 10 عمليات فقط! وفي العام 2003، صدر المرسوم الرئاسي “رقم 30” الذي سمح بأخذ الأعضاء من المتوفين، ومنحها لأشخاص محتاجين لها شرط موافقة قريب من الدرجة الأولى، كما أجاز أخذ الأعضاء من غير الأقارب.

في حديثه لـ “البعث الأسبوعية”، يستذكر الدكتور عمار الراعي، رئيس وحدة زرع الأعضاء في مشفى المواساة، وممثل سورية وشرق المتوسط بجمعية الشرق الأوسط لزرع الأعضاء، أن الزرع انتعش بعد العام 2003 في سورية، ووصل عدد العمليات في العام 2010 إلى 365 عملية تقريباً، لدرجة تجاوزت فيها أعداد العمليات التي تُجرى في المشافي الخاصة ما يجرى في المشافي الحكومية، بل وصلنا مرحلة كاد ينعدم فيها إجراء عمليات من هذا النوع في المشافي العامة، ما يدلل على أن “الأمور” كانت تسير “بشكلٍ أسهل” و”أكثر يسرة” في المشافي الخاصة، وهو ما أثار بالمقابل الكثير من “الشكوك والريبة”، فما كان من الجهات المعنية إلا أن أصدرت قراراً أدى إلى إيقاف عمليات زرع الكلية في المشافي الخاصة.

 

مبازرة وسمسرة!!

ولكن ما حصل بعد توقف الزرع في “الخاص”، والاكتفاء به في المشافي الحكومية، واعتماد التبرع لغير الأقارب، أنه أُسيءَ كثيراً لسمعة زرع الكلية في سورية، فقد أصبح الأمر “عملية بيع وشراء!!”، بل وبات علنياً، وما نشهده اليوم ليس خفياً على أحد، حيث وصل البعض إلى نشر “إعلانات بيع” على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى أسوار المشافي، وحتى في الأماكن العامة، في دليل واضح على “انتعاش هذه التجارة مع كل أسف!!”. ولقد شجعت ظروف الحرب كثيرين على الاستغلال وتحول الموضوع إلى نوع من السمسرة! وما يجري حالياً مع الكثير من المرضى عند بحثهم عن شخص متبرع هو ببساطة كالتالي: يُسأل المريض عن زمرة الدم التي يريدها؟ ومدى تطابق الأنسجة، ليأتيه الجواب عن توفر ثلاث كلى، ولكلٍ سعرها، فكلية شاب في العشرين عادة ما يكون ثمنها أكثر من تلك التي تعود لشاب في الثلاثين.. إذاً الموضوع بات يخضع لـ “مبازرة” تشبه تماماً تلك التي تحدث أثناء عمليات بيع وشراء البيوت.. وهكذا!.

ولكن “الاختباء وراء إصبعنا لا يحلَّ المشكلة التي تزداد تعقيداً”، ففي حال مُنِع التبرع من غير الأقارب، لا بد له من البحث عن بديل، ولا بديل أفضل – كما يقترح الدكتور الراعي – من “مشروع أخذ الأعضاء من المتوفين دماغياً”؛ وإن لم يتم اعتماد مثل هكذا مشروع فسوف تكون هناك أولاً تجارة أعضاء، وما يتبعها من لف ودوران واستغلال سافر للمرضى!! وطبعاً فتح المجال والسماح لغير الأقرباء بالتبرع جعل الأمر أسهل على “المريض وعلى الجهات الرسمية”، لأنَّ “أخذ الأعضاء من المتوفين دماغياً” يحتاج إلى عمل وجهود جبارة، تشمل مراكز تنسيق وفرقاً جاهزة، فحادثة الوفاة قد تحدث لشخص “متوفى دماغياً”، في منتصف الليل، وبالتالي يجب أن يكون هناك فرق جاهزة لأخذ الكلية ــــ وهذا كله مدفوع ــــ إضافةً إلى التحاليل التي يجب أن تُجرى من دون تأخير، وأحياناً قد يتطلب الأمر “هيلوكوبتر” جاهزة في كل الأوقات، لأن المريض المتوفى قد يكون في محافظة بعيدة، أو قد نحتاج لنقل الأعضاء لمحافظة ثانية.. إلخ. وطبياً مدة صلاحية الكلية 48ساعة تقريباً بالتبريد، أما القلب والكبد فـ 6 ساعات فقط.. كما لابد من وجود ما يُسمى بـ “إعلان موت دماغي” كما المُعتمد في كل دول العالم، فهو غير موجود في عنايات المشافي السورية، وطبياً تعريف الشخص المُتوفَى هو من توفي دماغه.. وإذاً، فالعملية يجب أن تُنجز بسرعة كبيرة، وتحتاج إلى أرضية قانونية صلبة، ولربما بسبب ذلك لم يلق هذا المشروع الحماس المطلوب، ووجد البعض مشروع التبرع من غير الأقارب أمراً أكثر سهولة!

 

الجدية في اتخاذ القرار..

ولا يستخف الدكتور الراعي بالعقبات والتحديات الاجتماعية التي قد تواجه مشروعاً من هذا النوع، ولكنه يرد بأن طرح أي فكرة غريبة قد يلقى اعتراضاً لدى البعض للوهلة الأولى، وهذا أمر طبيعي، ولكن الأمور ستسير بطريقها الصحيح بمجرد أن نبدأ، مضيفاً أنه كان أجرى في فترة سابقة استفتاءً حول استعداد الناس للتبرع بأعضائهم لتكون النتيجة أن الكثير منهم يدعم الفكرة، أما رفض البعض فقد كان لأسباب مختلفة، فهناك من لا يريد أن تتشوه جثته بعد موته، وآخرون يرفضون لأسباب دينية على أساس أن الجسم ليس ملكاً لنا، وهناك أسباب أخرى لسنا بصدد ذكرها؛ وكان “عدد كبير من طلابي قد أبدى استعداه للتبرع بأعضائهم”.. ويتابع: قانونياً سهَّل مرسوم السيد الرئيس الأمر فهو واضحٌ وجلي، وما نحتاجه فقط هو التنسيق بين وزارة الصحة والعدل حول تعريف الموت ليصبح الأمر بحكم المنتهي، أما دينياً فلا يوجد اعتراض، لا بل أُقيمت ندوات تلفزيونية بهذا الخصوص.

 

دول متزمتة دينياً سبقتنا!

يشدد الدكتور الراعي خاصةً على أن تأمين كلية ليس أبداً بالأمر السهل، فهناك أمراض وراثية، ولا يمكن بسببها للأخ أن يعطي أخاه؛ أضف إلى ذلك صعوبة الوصول لـ “المتبرع “الغريب”، والسوريون في معظمهم يعيشون ظروفاً قاسية جداً، وثمن الكلية يسجل سعراً خيالياً، ما قد يُجبر الكثيرين على بيعها!! لذلك يفترض أن يكون هناك بديل، وهذا البديل هو “مشروع أخذ الأعضاء من المتوفين دماغياً” الذي سيمنع تجارة الأعضاء، ويحمي الناس من الأمراض التي قد تُصيبهم لاحقاً في حال اضطروا للتبرع؛ وسوف يكون بيد الجهات المعنية، ما سيمنع عمليات الاستغلال والاحتيال التي يتعرض لها المريض وعائلته التي قد تكون تعاني بدورها من وضع صحي ومادي سيء، وسيُوقف العلاقة المتبادلة في عملية التبرع بين المعطي والآخذ. وبمعنى أدق، فإن أخذ الأعضاء من شخص متوفى دماغياً هو الحل الأنسب، كما أنه سيفتح المجال أمام زرع أعضاء أخرى، علاوة على أن زرع الكلية بكل تكاليفه الكبيرة أوفر على خزينة الدولة من جلسات غسيل الكلى، أضف إلى ذلك أنه يدل على رقي الشعوب وتحضرها؛ والمفارقة – يتابع الدكتور الراعي – أننا بدأنا بزرع الكلية قبل الكثير من الدول العربية، ولكن بلداناً كثيرة اليوم، كالأردن ولبنان، تجاوزتنا بمسافات، وما يزيد الأمر غرابةً أن دولاً تعتبر متشددة دينياً كالسعودية وباكستان، إضافةً إلى إيران، تعتمد هذا المشروع، وقد قطعت أشواطاً كبيرة في هذا المجال، وحققت إنجازات على مستوى العالم ما يجعل الحديث عن “عوائق ما” أمراً غير مُبَرَر، مُضيفاً: لنبدأ بالمشروع خطوة بخطوة، من الكلية والقرنية، وفي حال نجحنا – وهو أمر مؤكد لأننا نمتلك خبرة كبيرة فيها بالتأكيد – نتابع ونستمر.

 

مركز وطني بأعضاء مشلولة!

في العام 2009، تشكل المركز الوطني للتبرع بالأعضاء، برئاسة وزير الصحة، ولكنه لا يزال متوقفاً عن العمل منذ إنشائه ولا يقوم بأي نشاط.. “يراوح مكانه، وعملياً مشلول!!”، وهنا يشدد الدكتور الراعي على ضرورة أن يقوم المركز اليوم بالمراقبة والإشراف على أعمال مراكز الزرع في القطر، وتذليل العقبات أمامها: “يتوجب عليه لعب الدور المنوط به، وأن يمتلك داتا وإحصائيات وبيانات كل مرضى قصور الكلية والقلب: الزمر الدموية والأنسجة، بحيث نكون جاهزين في أي لحظة يبدأ فيها المشروع”.

 

ختاماً

عوضاً عن البحث عن النجاحات الصغيرة، الأَولى بنا إعطاء الاهتمام لمثل هكذا مشاريع كبرى وشاملة، خاصةَ وأننا نمتلك الإمكانيات، وما ينقصنا فقط هو التنسيق والقرار الشجاع لتنفيذ مشروع بهذا الحجم والأهمية، وجهد توعوي يبداً من وزارتي الإعلام والتربية لتكريس ثقافة التبرع بالأعضاء لدى أطفالنا، وصولاً لكل الجهات المعنية، لأن موضوع زرع الأعضاء والتبرع بها جهد جماعي وثقافة مجتمع، وإجمالاً، فإنّ “مشروع أخذ الأعضاء من المتوفين دماغياً” مشروع وطني بكل المعايير، وضرورةً مُلحةً في كل الأوقات، وعلينا أن نتذكر أن نسبة المتبرعين الأحياء في أوروبا لا تتجاوز خمسة إلى عشرة بالمئة فقط، والباقي من أشخاص متوفين دماغيين، وفي أميركا تصل النسبة إلى 50 بالمئة، والمفارقة الغريبة أن مرتبة سورية هي 13 في الإحصائيات العالمية على مستوى زرع الكلية من المتبرع الحي، حيث نشهد نشاطاً كبيراً جداً، في حين أنها صفر من “المتوفى دماغياً”!