دراساتصحيفة البعث

الظاهرة الترامبية باقية وستتمدد

محمد نادر العمري

رغم مغادرة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب البيت الأبيض، وعدم إقراره بالهزيمة التي تعرّض لها في الانتخابات، ورفضه حضور الحفل البرتوكولي المعتاد لتنصيب جو بايدن رئيساً، فإنه من الخطأ الاعتقاد أن رحيل الرجل في 20 كانون الثاني 2021 هو نهاية صناعة “حقبة درامية” إن صح التوصيف في هذا التشبيه، بل هناك توقع محتمل الحصول بأن يتوجّه ترامب لفرض نفسه على الداخل الأميركي نتيجة شعوره بالخذلان والمرارة ورغبته بالانتقام، وضمن هذا الإطار هناك عدة توجهات قد يقدم عليها ترامب:

أولها: حصول انقسام داخل الحزب الجمهوري أو التهديد بذلك

لا شك في أن علاقة الحزب الجمهوري بترامب يمكن وصفها تماماً بالعلاقة المصلحية التبادلية، حيث استفاد ترامب من الحزب في الوصول للسلطة، وهناك كثير من الوثائق والمعلومات التي أكدت انتقال ترامب من الحزب الديمقراطي للجمهوري لتحقيق ذلك وليس من منطلق الفكر الإيديولوجي، وهناك من يؤكد عدم التزام ترامب بأدبيات وأخلاقيات الحزب منذ انضمامه إليه. في المقابل فإن الحزب الجمهوري كان بحاجة لشخصية شعبوية تجارية مثل ترامب، فهو يتحدث بلغة العامة ولديه حاضنة من البيض الإنجيليين ويمتلك القدرات المالية والعلاقات التي تخوّله لدعم الحزب، ويمتلك شخصية متحدثة مقنعة وجاذبة. وهو ما ألمح إليه اليهودي الأميركي الذي عمل في عهد الرئيس ريغان مساعداً كبيراً في وزارة الدفاع الأميركية “دوف زيكايم”، حين أجاب عن سؤال لإحدى الوسائل الإعلامية الصهيونية قائلاً: “كان ترامب أسوأ رئيس أميركي وهو لم يكن جمهورياً ولا محافظاً”، وأشار إلى أنه كان مقامراً وليس محترف سياسة، وأضاف: “اعتمد في سياسته على بقايا أنصار مجموعات كلوكسكلان العنصرية وعلى التعصّب لسياسة البيض الأنغلوساكسون الذين يكرهون الكاثوليك فما بالك بالملونين!”. ورأى أن ما قام به للكيان الإسرائيلي عن طريق مجموعة مستشاره الخاص وزوج ابنته جاريد كوشنير وبمساعدة ديفيد فريدمان، وهما من اليهود الأميركيين المتشدّدين، سيخلف لإدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدين، متاعب مقبلة. لكن العبرة هنا تكمن في المحصلة، أي عندما تنتهي المصلحة التبادلية القائمة على المنفعة الثنائية، كيف سيكون شكل النهاية؟ وما الآثار التي قد يترتب عليها؟ ولاسيما فيما يتعلق بمصير الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة وقوته، الذي دعّم الظاهرة الترامبية الشعبوية، لتصل إلى وقت تبتلع الحزب بأكمله، أو تقوم بتفتيته من الداخل وتقسمه إذا قرّر ترامب تأسيس حزب جديد.

ولعلّ قراءة “بيرت ستيفينس” وهو أحد أهم الإعلاميين في الحزب الجمهوري عندما قال أمام الملأ في عام 2016 إن ترامب “مرشح غير جدير بتولي الرئاسة” هي الأكثر دقة، وتبيّن أنه كان محقاً في ذلك. وكان في مقابلة مع مراسل لمجلة “ماكورريشون الصهيونية”، في 14 كانون الثاني من عام 2021، أعاد ستيفينس للذاكرة ما أعلنه ترامب في حفل استلامه للرئاسة من باراك أوباما حين قال: “إن المذبحة التي وقعت لأميركا (وقصد رئاسة الرئيس الأسبق باراك أوباما من دون أن يذكره علناً) سنوقفها الآن”، واستخدم هذه العبارة لكي يتبنّى محدّدات إستراتيجية جديدة تقوم بعكس ما كان يقوم به أوباما في شؤون السياسة الخارجية، وسار في طريقته هذه لتحقيق الأهداف الأميركية، وكان الحزب الجمهوري يبدي إعجابه بهذه السياسة حين تنجح ولو مؤقتاً، رغم أن هذه الطريقة ليست من المنهج الذي اعتادته الإدارات الأميركية ونظام عملها.

ومن المفارقة في هذا الإطار أن هناك الكثير من الجمهوريين لم يكونوا مقتنعين بالطعون الانتخابية التي قدّمها ترامب وفريق إدارته للمحكمة الدستورية فيما يتعلق بنتائج الانتخابات الأمريكية ونزاهتها، ولكن أعلنوا تضامنهم مع ترامب حول ذلك للاستفادة من التبرعات المادية التي كان يحصل عليها ترامب ومستشاروه، وأيضاً هناك الكثير ممن يبدون رفضهم لقرار محاسبة ترامب وعزله، رغم انتهاء ولايته، ولكن يخشى هؤلاء الجمهوريون من أن يسجل ذلك علامة سلبية في تاريخ الحزب أولاً، وأن تصبّ في مصلحة الديمقراطيين الذين قد يستثمرونها في احتكار السلطة ثانياً، وللحفاظ على تماسك الحزب الجمهوري ثالثاً. لذلك قد يستفيد ترامب من حالة التصدع هذه داخل الحزب، ومن التأييد اللا محدود شعبياً له، لتهديد صقور الحزب بالعمل ضمن سياساته، أو الانسحاب منه وتأسيس حزب جديد وجذب الكثير من مؤيديه للحزب الجديد، مما قد يضعف الحزب الجمهوري.

ثانياً: التوجه فعلاً نحو تأسيس حزب جديد

مما لا شك فيه أن الأعداد الكبيرة التي حصل عليها ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (ما يزيد على 70 مليون ناخب أميركي) ليست كلها “ترامبية” الهوى، بل إن الكثيرين صوّتوا له كمرشح للحزب الجمهوري، ومنهم من صوّت لسياساته كرئيس في مجال البيئة والنفط الصخري.. وغيرهما.

لكن ماسُمّي “بالغزوة” التي قام بها أنصار ترامب والحماس الذي تشهده وسائل التواصل وغيرها، تشير إلى أن الظاهرة “الترامبية” لن تكون آنية تنتهي برحيل ترامب، وأن فترة بايدن الأولى والانتخابات النصفية للكونغرس التي ستحصل بعد سنتين، ستكون مليئة بعدم الاستقرار، وقد يكون لترامب مرشحوه خارج إطار مرشحي الحزب الجمهور، خاصة وأنه في المؤتمر الصحفي عند مغادرته البيت الأبيض قال صراحة للصحفيين: “وداعاً على أمل لقاء قريب وسأعود بشكل آخر”، وما سرّبته صحيفة “وول ستريت جورنال” قبل رحيله بأيام عن أن ترامب ناقش مع مستشاريه إمكانية تأسيس حزب جديد يُسمّى “الحزب الوطني”.

وفي الواقع إن الظاهرة الترامبية ازدهرت وتزدهر بين فئات كبيرة من الأميركيين الذين يشعرون بالغضب تجاه الطبقة السياسية الحاكمة، ويعتبرون أن الحكومة خذلتهم، والاقتصاد خذلهم أيضاً، وتمّ تهميشهم على مدى عقود، وهو ما أوصل ترامب أساساً للسلطة. بالنسبة لهؤلاء، يشكّل ترامب “الإله المنقذ” الذي أعلن عن نفسه بأنه آتٍ من خارج هذه السلطة التقليدية، ويؤمن أنصاره بأنه يتعرّض للظلم من هذه المؤسسة الحاكمة وإعلامها، وبالتالي من المحتمل أن يجمع حزب ترامب الشعبوي كلاً من القوميين العنصريين والمهمّشين البيض من الأرياف وغير المتعلمين.

وهكذا، قد يستفيد الحزب الديمقراطي من الشرذمة التي سيعانيها الحزب الجمهوري، لكن المجتمع الأميركي سيواجه مشكلات داخلية مرتبطة بقدرة ترامب على بثّ الانقسام أكثر فأكثر، وإثارة الغرائز، وتحفيز الغضب الشعبي على المؤسسة الحاكمة.

ثالثاً: تشكيل لوبي ضاغط

من المعلوم أن ترامب لديه سلسلة اقتصادية يفضّل هو أن يطلق عليها إمبراطورية ترامب، وهو عمل سابقاً في وسائل الإعلام المتلفزة، واعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر للإعلان عن سياساته وقراراته أثناء حقبة ولايته، ومن المحتمل جداً في ظل توفر هذه الإمكانيات أن يقدم ترامب على تأسيس شبكة إعلامية مختلفة الوسائل، تكون منصةً له ووسيلةً ضاغطةً مستفيداً من علاقاته وشعبيته وما يمتلكه من وثائق ومستندات حكومية.

يمكن أن يقوم القضاء الأميركي بمساءلة ترامب في قضايا التهرب الضريبي، وتحريض المتظاهرين على دخول الكونغرس، والاتهام بالتسبّب بالقتل، وبالتالي إما يسجن وإما تتمّ إقامة “صفقة قضائية” معه تقضي بعدم ممارسته أي عمل سياسي.

في الحالة الأولى، سيستغل ترامب وأولاده ومناصروه القضية ليتحدثوا عن “المظلومية” السياسية وسلب الديمقراطية، وبالتالي قد يتحوّل إلى ظاهرة أكثر خطراً وستزداد شعبيته، وخصوصاً إذا ما قامت ابنته إيفانكا بممارسة العمل السياسي والترشح لانتخابات 2024، متكلة على أصوات أنصار والدها. وتبقى الحالة الثانية أقل خطورة، وخصوصاً إذا ما أراد بايدن فعلياً تخفيف الاحتقان والانقسام الداخلي، ولكن في الوقت نفسه تبقى ابنته إيفانكا وسيلة لعودته للبيت الأبيض ولو كانت هذه الوسيلة بشكل آخر.

في النهاية، الظاهرة الترامبية أتت إلى السلطة بسبب أخطاء المؤسّسة السياسية الحاكمة، وربما نتيجة تردي أوضاع النخبة الأمريكية، لكنها في كلتا الحالتين ستتسبّب بمتاعب للإدارة الأميركية، وستحتاج إلى بعض الوقت للتخلّص من آثارها إن أحسنت المؤسسة الحاكمة التصرف وتفرغت للداخل قبل انطلاقها لمواجهة التحديات الخارجية.