جمال عبود في سماواته البعيدة
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
كم يبدو الغياب ثقيلاً وغير محتمل حين يدقّ الموت باب يومنا، معلناً نفسه ضيفاً مقيتاً لا نستطيع التآلف معه، هذا الزائر الذي يقيّدنا بسلاسل من استسلام لا يمكننا الفكاك منها، لنرى أنفسنا على عتبة الوداع، كما حالنا الآن ونحن نودّع صديقاً وزميلاً عزيزاً، القاص والصحفي والأستاذ الجامعي د. جمال عبود، الذي عشنا معه أياماً جميلة عندما كنّا جميعاً نعمل أسرة واحدة.
تعود معرفتي بالصديق جمال إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما طلب مني تدقيق كتابه “مقدمة في النقد”، وكان بداية لصداقة بيننا امتدّت حتى رحيله، رغم أنه لم يكن يوفّرني من “نزقه” ومزاجيّته التي كانت تظهر أحياناً في عباراته وملامح وجهه؛ ومع ذلك، كان رجلاً مفعماً بالحياة، لديه جعبة من الأفكار التي تغني أي جلسة يوجد فيها، شخصاً مجبولاً بالطيبة والسماحة، وكان له رأيه الخاص بالحياة والأصدقاء، إذ يرى أن اليتم يصيب القلب مع رحيل أي صديق أو محب، وكان يردد بحزن: “من نختارهم في الحياة ويقاسموننا تفاصيلها هم من نُصاب باليتم لفراقهم، لأننا برحيلهم نخسر حياة كاملة بكل عبثها وخيباتها وأحلامها، أما أهلنا الذين فرضتهم علينا الحياة فهؤلاء تربطنا بهم قرابة الدم، وليس بالضرورة أن نتقاسم معهم في الحياة أكثر من هذه الصلة”؛ وها هو يرحل تاركاً أحلامه وقناعاته، وكل إنجاز حققه، ليعوّض من خلاله ظلم الحياة له؛ وكما كثير من الأحبة الذين فقدناهم يغادرنا إلى عالم آخر، يركن إلى التراب، يلتحف الوحشة والبرد، لكن دفء روحه سيمنح المكان الكثير من الألفة..
لم يتطابق حساب طموحات جمال مع ظروف الحياة فدرس في معهد النفط، لكنه لم يستكن لذلك، فذهب إلى بيروت ودرس اللغة العربية في جامعاتها، وعمل محرراً في صحفها، وبعدها عاد إلى دمشق لينضم إلى أسرتنا في صحيفة “البعث” محرراً في القسم الثقافي، ثم تابع دراسته في الماجستير والدكتوراه ليغادر الصحيفة فيما بعد إلى وزارة الثقافة، أستاذاً في المعهد العالي للفنون المسرحية.
أبحر جمال في محيط الأدب والكتابة، ونسج الكثير من القصص القصيرة عن الحياة والعلاقات الإنسانية، فكانت مجموعته القصصية الأولى “مصرع التمثال”، لتتوالى بعدها مجموعات قصصية عديدة: “أخبار المنزل”، “غلطان يا بطيخ”، “حكي بردانين”، “فاتني أن أقول لكم”؛ ولم تقتصر تجربته على القصة، بل كانت له تجربة مع النقد عبر دراسات نقدية بعنوان “مقدمة في النقد”، وهذا النتاج يمثل تجربة الأديب جمال عبود الذي شغل مكاناً في ذاكرة القارئ، وانتهج لنفسه أسلوباً إبداعياً خاصاً به يعتمد ثقافة عالية، وأسلوباً يتجدد خطابه باستمرار، يتعامل من خلاله مع التفاصيل الحياتية بحرفية فنية عالية، ويرسم الواقع بلغة إنسانية تجذب القارئ، وتقدم له إبداعاً متناغماً يماثل بين الجمال والفن والمعرفة، ليبقى محافظاً على استمراريته وأهميته وقيمته في تحليل التركيبة الاجتماعية، وسبر كوامن النفس البشرية، وصوغها في شخصيات من لحم ودم تنبض بالحياة بأسلوب حكائي ممتع وساخر وشفاف.
تجلت الكتابة عند جمال بحالتين: مرة بقرار الشروع بالكتابة، ومرة أخرى بالنزق والقلق الإبداعي الذي يرافقه دائماً، فكان يرى أن ذلك ربما يكون شعوراً بالتعويض عن شيء مفقود داخل الإنسان وبحثاً عن الحرية، لكن عندما يؤمن الأديب بأن هذا أصبح مشروعه فإن الكتابة هنا تصبح قراراً لأنها الأسلوب والطريقة للوصول للناس والتعريف عن الذات، وما يجول فيها؛ كما كان يعتبر الكتابة نافذة الحرية المتوهمة والشاهد على استمرارية الحياة، والوسيلة الوحيدة للامساك بزمن يهرب بفكرة تتغير، وهي – كما تعايش معها – أكثر من توثيق للحظة آنية، بل تسجيل للحظة قادمة؛ وكلما ازداد الواقع مرارة كلما كنا بحاجة للكتابة التي يتنامى دورها كل يوم، ليس لأنها السلعة التي نتعامل بها، بل لأنها تجربة البشرية من بداية تاريخها، إذ احتاجت للّغة لأن توثق حياتها ومسيرتها عبر الكتابة.
تتعدد الأنوات التي تحكمها علاقات مختلفة في أدب جمال، فقد تتجلى بعلاقة الأنا بنفسها، بذاكرتها، وعلاقتها بالمحيط الاجتماعي، وأيضاً علاقة الكاتب بشخصياته، وما تثيره من موضوعات إشكالية تختلط فيها مفاهيم ومعطيات متعددة؛ وأذكر أني سألته مرة عن كيفية تعامله مع هذه الأنوات في كتابته، فأجابني: “أنا أفكر بموضوع الأنوات كثيراً، وأفكر ماذا تغير عندي، وماذا أُضيف، وماذا نقص، لذلك فإن مراقبتي لنفسي حاضرة دائماً في الحالة التي كنت عليها، وما سأكون أيضاً، وكثيراً ما أراقب هذا الشيء، فانا في مجموعتي القصصية (حكي بردانين) بالتحديد قررت أن أكتب عن علاقة الكاتب بالمكتوب، علاقة الأنا بالآخر، والتي يمكن أن تكون أنا آخر، فالكتابة أكثر عملية إبداعية تبين الأنا الحقيقي في الإنسان، وتحوّله لشخص من لحم ودم في نص أدبي، ومحاولتي في كتابتي هذه كثير من الناس لم يفهموها هكذا، لربما فهموها منافسة بين شخصيتين، أو انفصام شخصية، ولربما ليس انفصام شخصية بقدر ما هو بحث عن الأنا، ومحاولة كل أنا أن تكون مسيطرة على اللحظة، فالكاتب ليس في صراع مع الآخر دائماً، وإنما في صراع مع نفسه، والعملية شائكة بعض الشيء”.
جمال عبود.. أيّها الصديق في سماواتك البعيدة.. تغمدك الله بواسع رحمته وغفرانه.