ثقافةصحيفة البعث

“الشعر الحديث واغتيال الحاضر” كتاب نقدي لمحمد عضيمة

“هل أنتج شعراؤنا المعاصرون هوية شعرية ناضجة ومتميّزة عن هوية الأسلاف أولاً، وعن هويات الشعر في بلدان العالم ثانياً؟ أي هل أنتجوا هوية شعرية لا مرجع لها إلا حاضرها؟” السؤال الذي اختار الشاعر السوري محمد عضيمة أن يفتتح به كتابه النقدي “الشعر الحديث واغتيال الحاضر”، ليكون مدخلاً لعدة طروحات نقدية شعرية جدية وجديدة، يطرحها عضيمة على طاولة السؤال والبحث والتقصي؛ “جدية” لجهة منطقها القائم على الأسئلة وما تطرحه من هواجس نقدية جريئة، خارجة عن سلطة التحريم في الخوض بما سكت عنه العديد من النقاد الكبار، وهي أيضاً “جديدة” من جهة التفكير بمنطق مغاير لما راح هذا السؤال يناقشه منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهذا المنطق يجلو أنساقه الشاعر المقيم في اليابان، مدرجاً أن ما ورد في الأجوبة التي تصدّت للسؤال السابق، تذهب عموماً نحو “الحداثة الشكلية” في وصفها ما حدث للّغة العربية شعرياً، وبأن أصحاب تلك الأجوبة التي جاءت في مطولات نقدية مختلفة، توهموا وجود رؤى معرفية جديدة للكون والإنسان، رغم تأكيد الجميع بأن الشعر العربي في أزمة، مأزق، إلا أن أزمة الشعر كما يراها عضيمة ليست أزمة محرضة ودافعة كما في الحالة الإبداعية، الشعرية منها بشكل خاص، بل هي في التشابه والتطابق والتناسل الذي يحكم معظم النصوص الشعرية، الأمر الذي كان له نتائج ثقيلة على الخيال الشعري المبدع، من أهم تلك النتائج السلبية انعدام الاختلاف، فـ”الصغار” صدى “الكبار” و”الكبار” صدى بعضهم وصدى ماضٍ شعري قديم، فلا إبداع للحاضر دون قطيعة معرفية مع ماضيه، وهذا حسب عضيمة ما لم يحدث على الصعيد الفكري العربي، وعلى أحد أهم حوامله، الشعر.

أربعة عشر قسماً أو باباً، انطوى عليها الكتاب، في كل قسم يبدأ الكاتب بالأسئلة الجدلية التي يطرقها في التمهيد لفكرته، وعادة السؤال في النقاش، هي من العادات الفلسفية البحتة، ويحسب للكاتب اعتماد منهجيتها في فن الشعر، وهذه الأبواب على التوالي: (الأزمة/ حياة الحضور/ الانفصال/ الشعر والدين/ جديد الأمس قديم اليوم/ مواسم التدخين الميتافيزيقي/ استراحة في الشرق الأوسط/ أبو تمّام هذا الفقيه الشعري/ النص- الأب/ حداثة الامتداد والتكرار والتبعية/ حداثة اتحاد الشعراء مع الواهم/ اغتيال لغة التشبيه والتصوير عمداً/ تاج فتى الهيكل/ نقول)، وفي كل باب ثمة طرح منسجم في جملته مع مجموع الطروحات المقدّمة في الكتاب، وإن كان أحياناً ينفصل عنها لدى الاشتغال على فكرة مختلفة، إلا أن اختلافها هنا ليس بمفارقة الجوهر العام، بل بالانفصال عنه والطيران في فضائه، الأمر الذي أعطى زخماً وديناميكية للمحاور والأسئلة والهواجس واليقينيات أيضاً، تلك التي ينطلق فيها الكاتب وفق تصوره الشخصي، مقتحماً أبواباً مغلقة في طبيعة تكوين الشعر العربي، وعلاقة اللغة وسياقات تطورها التاريخية، مع هذا الفن الأشهى عند الشاعر العربي، ومن الثنائيات المتضادة التي وردت في الكتاب وهي وفيرة، نقرأ: (مع نزول النص القرآني تنتهي عصور الأفراد ليبدأ عصر الجماعة؛ تنتهي عصور الكلمات ليبدأ عصر الكلمة، ينتهي زمن القبائل المتعدّدة ليبدأ زمن القبيلة الواحدة؛ ينتهي زمن المغامرات والتجارب ليبدأ زمن المغامرة الواحدة والتجربة الواحدة؛ ينتهي زمن النصوص ليبدأ زمن النص، وليرتفع الكلام من الأرض إلى السماء ولن ينزل إلا من هناك إلا مع بدايات العصور الحديثة، ولدى بعض الكتّاب القليلين جداً وبشكل خجول أيضاً)، فبعد العصر الجاهلي -الذي يجعله الكاتب ميدان المقارنة الشعرية بين طبيعة الشعر في تلك المرحلة، وما طرأ عليه في المراحل اللاحقة- لم يعد الكلام الشعري العربي يُعنى بالإنسان، بل صار يُعنى بالمفاهيم والأفكار بشكلها العقائدي، وهذا ما جعل الشعر غير معنيّ بالتجربة المعاشة بالحواس كما كان مزاجه العام، كما أنه لم يعد جزءاً من الوجود يتغير بتغير الوجود والكون، بقدر ما صار وسيلة ثابتة للوصول إلى غاية معينة.

في باب “الشعر والدين: هذا التوأم الصعب” يتطرق الكاتب لواحدة من أكثر العلاقات جدلية في التاريخ الأدبي العربي، علاقة الشعر بشكل خاص بالدين، فهذه الرؤيا الميتافيزيقية تتوضح في النص الموحى والنص الشعري من بعده، خصوصاً بعد أن أصبح النص الموحى، هو المعيار الجمالي للنص الشعري بشكل خاص، ولجميع الكتابات الفنية بشكل عام، بعد أن صارت الكتابة العربية تُقاس فنياً بمدى اقترابها أو ابتعادها عن جماليات النص المقدّس، الأمر الذي يعزوه الكاتب لكون جميع القيم الفنية التي أفرزتها الدراسات حول النص المقدس، صارت وعلى نحو غير مفهوم، معايير ومقاييس لجمال القصيدة العربية، بما في ذلك الكتابات الصوفية.

“حداثة الامتداد والتكرار والتبعية”، أحد فصول الكتاب المهمّة والممتعة، وفيه يقدم الكاتب عرضاً مكثفاً، للشعر العربي المعاصر، الذي نجد فيه امتدادين لتقليدين نقديين قديمين: التقليد الذي يدافع عن مفهوم الشعر كما روّج له نقاد مثل “الآمدي/ ابن قتيبة”، والتقليد الذي يدافع عن مفهوم الشعر كما روّج له نقاد مثل “الجرجاني/ القرطاجي”، فالشعر العربي ومنذ خمسينيات القرن العشرين، ترجيع –حسب المؤلف- إما لقيم هذا التقليد أو ذاك، خصوصاً وأن الحداثة الشعرية العربية، قدمت نفسها بل ودافعت عنها من مواقع الماضي، ولم تستطع أن تكتسب شرعيتها إلا بلباس الماضي وقيمه.

“الشعر الحديث واغتيال الحاضر” كتاب نقدي غزير الأفكار، رشيق التعبير، بعيد عن السفسطة النقدية، مداركه واضحة وبسيطة في متناول القارئ بمختلف مستوياته عموماً، كما أنه يحرض للذهاب في تلك المفازات النقدية، نحو عوالم أوسع، يطرق الكاتب بابها بقوة وهو يدرك أنه يعطي أفكاراً بعيدة عن المستهلك والمتداول والشائع، وهو ما يميّز هذا الكتاب بشكل خاص.

تمّام علي بركات