مجلة البعث الأسبوعية

لعنة الفضاء الأزرق.. كتابات مشوشة بارتدادات ثقيلة وتيجان وهمية وفقاعة تقترب من “التفاهة” الثقافية

“البعث الأسبوعية” ــ جمان بركات

“زعموا أن ثعلباً أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة، وكلما هبت الريح على أغصان تلك الشجرة حرَكتها، فضربت الطبل، فسُمع له صوتٌ عظيم باهر، فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته، فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم، فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة”.

ويكثر بين الفينة والأخرى دوي حوارات صاخبة عن جوائز وامتيازات وشهادات تقدير تمنح لشخص ما اعتلى منبراً ما أو أتحف الوسط الثقافي بمنتج ما، الكل يتبارى في مطاولة الأعناق لإبراز المواهب – منها حقيقية ومنها وهمية إلا في ذهنية المتخيل الموهوم – يصنعون له دعاية وجلبة في الفضاء الأزرق ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منبر من لا منبر لهم، بل ومن لا يحق أن يكون له منبر.

في الواقع، يذهب الكثير لتضخيم الذات ويبدأ باستغلال أجزاء الفرص لصناعة حدث ما والترويج لبطولة ثقافية ما، ومن مخاطر هذا الفضاء أنه صدّر للمشهد الثقافي أناسا باتوا يسيئون للوسط الثقافي وللمنبر وللغة، أشخاص في الحقيقة همهم القص واللصق والاقتباس والتحايل وليّ أعناق الأفكار والنصوص وسرقة جهد أصحابها الحقيقيين.

وقد بات الأمر مرهقاً ومزعجاً، فضاعت القيمة العليا للنصوص المثقفة الواعدة المجتهدة في دوامة هذا الكم من الترهل واللصوصية والتسطيح، ويبقى السؤال: من هو المثقف الحقيقي؟ ومن يطلق عليه هذا اللقب؟ هذا كان عنواننا لمجلة “البعث الأسبوعية”، حيث تشاركنا مع عدد من الأدباء والفنانين لمعرفة رأيهم بما طرحنا.

 

فن التعامل

الشخص المثقف، برأي الفنان رامز حاج حسين، هو الذي يدرك فن التعامل مع العلم الذي يمتهنه، وفن التعامل مع الحياة، وينسج بينهما منظومة فكرية خاصة به، ويقنع محاوريه ومحيطه بحججه بأسلوب راق بنّاء، وقدرة على تطويع أي حوار بطريقة سلسة لصالح وجهات نظره؛ ويصادفنا في الحياة وفي المحيط الثقافي أنماط شتى من المثقفين، منهم من يمتلك الأصل المعرفي وجوهره، فترانا ننجذب لحواره وجلسته ونقاشه ولا نملّ من كلماته، وآخر امتهن الدجل الثقافي فقطف ثمار هذا ومنتج ذاك وراح ينمّق ويدبّج الحوارات والجمل الرنّانة، وحين يعارضه فكر ما، أو محاور ما، في أحد المفاصل تراه ينفلت من عقاله ويضرب عرض الحائط بكل ما كان يختبئ خلفه من أوراق توت هشة، وهناك من لا يملك الاثنين، لا المعرفة الأصيلة ولا القدرة على التحايل، فنراه يتخبط ويضرب بتكبر وتعنت آراء الآخرين ويسفهها ويمتهن النقد الفارغ والاعتراض المبني فقط على المخالفة. ولو أردنا أن نعدد لحضر أمامنا الكثير من الأمثلة النمطية لكل حالة، ولعنة الفضاء الأزرق الكبرى هي إعطاء المنبر والمساحة لمن يسيء للثقافة وللمثقفين، فتصبح منشوراته ساحة لنزال يتبارى فيه شريف المكانة الثقافية وصاحب القدر الضئيل منها، ولا ريب أننا بحاجة لصبر طويل وتمحيص أطول حتى يظهر المرج، بعد ذوبان صقيع الأدعياء. وأضاف رامز: الفضاء الافتراضي لوسائل التواصل الاجتماعي كان حريا به أن يصبح بديلنا الحضاري الجديد، للترويج لكتاب وكاتبه، لقصيدة وشاعرها، للوحة ومبدعها، نباري بهم بقية الأمم ونرفع من شأن الثقافة، ونعلي راية الحوارات التي تبني، ولا ننجرف أبداً نحو الخلافات بشتى أنواعها، ولا نمجد الصغائر، ولا نسفه المبدعين والقامات الفكرية، وسيكون لنا حينها ثقافة جديدة بلغة عصرية وتقانات مميزة ارتكازها على الثقافة التقليدية وعلى الكتب المهمة وصناع الفكر والفن، فتصبح لنا تلك المساحات الآمنة لنتبارى في جميل القول والفعل، ويصبح للأجيال الوافدة منارة ثقافية واعدة بأسلوب يفهمه الجيل الجديد فيجدون في هذه المساحات ما يعزز فهمهم ونضوجهم، ويسهم في كل ما يحصنهم ويربي لديهم الخلق والضمير والوجدان والعقل.

 

ريش منفوخ

وترى الكاتبة أميمة إبراهيم أن الفضاء الأزرق ساعد على انتشار هذه الحالة وعلى ترويج البطولات الثقافية، وقد رأيت وعاينت عن كثب بعض مديري الملتقيات الثقافية الذين لا يجيدون أبسط القضايا اللغوية، وتراهم منفوخي الريش يقدمون النصائح الأدبية وهم أحوج ما يكون إليها، وقد قرأت للتو سيرة ذاتية لإحداهن وفيها ما لا يقل عن عشر شهادات دكتوراه فخرية، وذكرت عشرات المواقع التي تتهافت على منشوراتها.. إلخ، هي حالة نرجسية غريبة، هكذا يصنعون تيجاناً وهمية من خزعبلات ويصدقون أنهم باتوا ملوك الثقافة والشعر ما داموا يجدون من ينشر لهم النتاج الغث ومن يطبل ويزمر لهم.

وأضافت إبراهيم: الفضاء الأزرق متاح للجميع وحق مشروع للجميع أيضاً، لكن المشكلة في الأدعياء وفيمن يستسهل الكتابة ويظن أنه من خلال كلمتين كتبهما على صفحته صار محللاً سياسياً أو باحثاً تراثياً أو شاعراً لا يشق له غبار، وتراه يحيط نفسه بألقاب لا تعد ولا تحصى. وسأحكي قصة حدثت في جلسة جمعتني مع صديقة قالت لي: “وجدت لنفسي عملاّ بعد التقاعد”، قلت لها: “أفرحيني بالخبر، ما هو هذا العمل؟”، فقالت ضاحكة: “بدي صير شاعرة!!”. وضحكنا سوية، وذكرت لي أن في مدينتها عشرات المتقاعدات اللواتي بتن يصدّرن أسماءهن بلقب شاعرة، وكذلك المتقاعدون من مختلف المهن الذين صاروا مديري ملتقيات أدبية يتوجون من شاؤوا ويبعدون من يشاؤون.

 

غياب المعايير

أما الناقد أحمد علي هلال فقال: بعيداً عما وقر في الخطاب الثقافي من تعريفات لا نهائية للمثقف، كما أدواره الحاضرة أو المغيبة، ومع ما اشتق من تعريفات ما زالت في إثر التأصيل والاختبار، فإن المثقف هو صاحب الأفعال الثقافية والحضارية انطلاقاً من نظرية المعرفة، صاحب أدوار التغيير وصناعة الرأي والموقف، صاحب الرؤيا، وكل ذلك لا يستقيم دون أن يقترن سلوك ذلك المثقف بأخلاق المعرفة وأقانيمها، ذلك أن الأخلاق باتت منطلقاً أساسياً لتليق الثقافة بالمثقف كما يليق بها، مع ما نشاهده من مفارقات مؤسسية ما بين الثقافة والأخلاق في مشهدنا الثقافي، ولا سيما على المستويين الإعلامي والإبداعي، ما يحيلنا إلى إشكالية قديمة جديدة ما زالت تتواتر في فضائنا الثقافي بفعل معطيات ومقدمات كثيرة، ليس أقلها التباس معنى الحرية الذي ساد في وسائل التواصل الاجتماعي وغياب المعايير في الأعم الأغلب، فالثقافة التي نرى تجلياتها في ذلك الفضاء الأزرق ليست محض كلمات و”إبداع” يُخيّل للبعض – بحكم الحرية المتاحة للنشر – أنه يستطيع الكتابة دونما حامل ثقافي/ معرفي يجعل من الكتابة نافذة إبداعية بحق، والأمر لا يزيد عن محض توهم صَاحبَ الكثير من الكتابات التي تعاني من اضطراب وتشوش في استقرار جنسها الإبداعي، فضلاً عن أزمات يفيض بها هذا الفضاء لا تعني الثقافة بقدر ما تعني النزوع إلى الاستهلاك والتباس دلالة الاختلاف، وتوسل إنجاز شيء على حساب الحقيقة الإبداعية؛ ومن أمثلة ذلك التوهم بالإنجاز وتقاليد المحاباة الكثيفة دون رادع نقدي ولو في الحدود الدنيا، لكن ذلك لا يعني غياب الكتابات الحقيقية المخلصة للفن من كتّاب ومبدعين على ندرتهم ما زالوا في إثر نصوصهم وحوارياتهم فتحاً في أفق المعرفة وفرادة استثنائية ما زالت تتوسل مكانها في الفضاء الأزرق؛ فمفهوم الحرية الزائفة وغياب النقد، كما الناقد، عن دور الرقابة عن الكثير مما يُكتب نتج عنه خلط في الكثير من المفاهيم والأفكار، ما جعل صورة الثقافة في الفضاء الأزرق غير واضحة المعالم تماماً، ومشوشة وذات ارتدادات ثقيلة ربما لا تعكس الصورة الحقيقية لأفعال الثقافة وأدوارها المنشودة؛ وما يمكّن من استقراء تلك التمايزات التي تسم الكثير من الكتابات أنها في المحصلة صورة واقع يرهص بتحولات وتجاذبات عميقة، ويسعى لإنتاج حالة يكاد العقل يغيب فيها قليلاً لتحل محله العاطفة والانفعالات السريعة.. نحتاج وقتاً لقراءة ما يُكتب من أجل فرزه وتصنيفه، ويحتاج الناقد الحقيقي إلى أن يضطلع بدور معرفي/ أخلاقي يسهم في تقويم الحالة بقراءة فاحصة وبمعايير موضوعية دقيقة تخلص الإبداع مما اعتراه من ابتذال وتبسيط مخل وينتصر لنصوص الحياة المتدفقة، إذ هو يسهم في خلق مناخات حقيقية لمبدعين.. وما أقلهم.

 

الفقاعة في الثقافة

وحسب رأي الفنان أكسم طلاع، ترتبط الفقاعة بالزمن القصير وسرعة الغياب وانعدام التأثير المرئي واللامرئي بعد حين، وتقترب من “التفاهة” في الثقافة، خاصة حينما يكون الوعي مطالباً بقول الحق والمسؤولية؛ وتنتج الفقاعة بفعل عوامل عدة، ولها احتياجاتها الآنية التي تخدم التظليل والتعمية، وتتعكز على قوائم واهنة وإن كانت طويلة كالقصب، فكم من أدعياء فن وأدب تبوأوا وتسيدوا منابر عديدة واندثروا بعد حين مثل أي أغنية نسمعها في الكراجات المزدحمة بكل عاجل.

وحسب رأي الكاتبة لينا الزيبق فإن للثقافة علاقة وثيقة مع القراءة، ونوعية الكتب التي قرأها الشخص تحدد مدى اطلاعه، وليس الاطلاع فقط ما يجعل منه مثقفاً، بل إن تطبيق ما قرأه على حياته العملية هو ما يجعل منه مثقفاً واعياً، أي أنه وظف المعلومة في خدمة الواقع؛ وللكتاب قدرة على التغيير، ويحمل الكثير من القيم الإنسانية، وإن لم يمتثل للتغير نحو الأفضل فهو لا يندرج تحت مسمى مثقف، بل ممتلئ بالمعلومات التي يلقيها في المجالس وفي منابر الإعلام، لكنه في الحقيقة يمثل الفراغ الداخلي، فهو كالطبل الأجوف باطنه فارغ وظاهره مبهر وجذاب.

أما عمن أتيحت له فرصة الظهور في الفضاء الأزرق وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، فلي كلمة بهذا الشأن، فهناك من يستحق أن يكون له مكان بين هذه الصفحات، وله أذن مصغية، وهو صاحب رسالة وله قلم قوي يكتب فيه فكراً مستنيراً ويشرح عن الواقع بصورة تبشر بالخير، أو ربما تسلط الضوء بطريقة واعية على بعض التغير الذي علينا أن نسير إليه حتى نصبح أكثر حكمة وفاعلية، فصوته وحضوره وثقافته لم تأت من الفراغ، بل هو مشبع بالوعي الذي من شانه أن يساهم في إيجاد حلول أو التقليل من الخسائر التي يمكن أن نتجنبها.

أما الفئة الثانية، فهي الطبول، أو ربما دمى تحركها شريحة تتولى التخريب لجيل المراهقين والشباب، أو ربما كان من السخف أن يجعل من نفسه مهرجاً بحجة أنه يريد إضحاك الناس، وبالطبع اتخذ من هذا ذريعة ليكون له عدد مشاهدين أكبر.

وتابعت لينا: المشكلة الآن، من يشاهد المفيد ومن يشاهد الرديء من هذه المسرحية عبر الانترنت؟ إنهم نحن، آباؤنا، أولادنا، أحفادنا، من نحبهم، ومن غير المجدي أن نتولى مهمة التوجيه بما هو مفيد وما هو غير مفيد دون أن يكون لنا الخلفية الثقافية التي تمنحنا السلطة أو ربما القدرة على التغيير؛ والآن يأتي دور الثقافة، وهو معرفة انتقاء الجيد من السيئ من المعلومات، أن تراقب وتشاهد وتستمع؛ وبالنهاية انتقاء ما يتوافق مع أخلاقك، فأن تكون مثقفاً يعني أن تكون على دراية، وتلك الدراية من شأنها أن توجهك نحو الطريق الصحيح، وأن توجه بطريقة مفعمة بالأدب كل من هم حولك.. اقرأ أكثر حتى تعرف أكثر، المعرفة وحدها هي مفتاح كل ما هو مغلق، وهي السبيل الوحيد لأن تنجو من مكائد الانترنت واختيار الأفضل والأكثر أماناً.