الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

طلِعْ مُو بيتْنا!

عبد الكريم النّاعم

بعض الذكريات لا يخلو من طرافة، في عام 1968 وكنتُ مديراً لمدرسة المتنبّي الابتدائيّة، على بعد مئتي متر تقريباً من بيتي الذي أسكنه، في ذلك العام دُعيتُ لاتّباع دورة إدارة في دمشق، وكنتُ مع خمسة آخرين، منهم أربع معلّمات، وسافرنا كلّ بطريقته، وفي الذاكرة المثقوبة، أعني ذاكرتي، أنّ المدّة كانت قُرابة شهر، وكانت دورة استفدنا منها كثيراً وخاصّة فيما يتعلّق بالجداول، وما يساعد على حُسن الإدارة، ولا أذكر أين كنتُ أنام، وأقدّر أنني استفدتُ من وجود أقرباء لي موظّفين في دمشق، وكنّا نُغادر دمشق ظهر يوم الخميس، لنعود إليها صباح السبت القادم، ويبدو أنّ زميلاتنا المعلّمات سافرْن في طريق العودة مع زميلنا الآخر، وفي الأسبوع الذي تلاه طلبْن منّي أن يسافرنَ برفقتي، وأستطيع الاستنتاج من أنّهن لم يكنّ مرتاحات في السفر مع زميلي الآخر، لسبب أجهله، فسألتّني إحداهنّ في طريق عودتنا إلى حمص عن كيف أعود لدمشق، فقلتُ لها أسافر في صباح السبت باكراً، فأصل قبل بدء الدوام، فطلبتْ منّي أنْ أحجز لهنّ جميعاً في السيارة التي ستقلّني، وأعطيْنني عناوينهنّ، وكان ثلاث منهنّ يسكنّ قريباً من طريق الشام في حمص، والثالثة تسكن في حيّ الحميديّة، فوعدتُهنّ بذلك، وقد اتّصلتُ بكراج التاكسي الذي أسافر منه، وأعطيتُ العنوان لأحد السّائقين.

اعذروني لهذه المعترضة، فليس في ذاكرتي من الأساتذة الذين أعطوا محاضراتهم في تلك الدورة إلاّ المرحوم الدكتور غسان الرفاعي، المثقّف، وصاحب القلم الأنيق في تميّزه، بعض مَن عرفنا يحفر في الذاكرة، وبعضهم لا يترك أيّ أثر فيها.

هنا أيضاً أشير إلى ما قد اختفى الآن من حياتنا، كانت أجرة الراكب في السيارة التاكسي من حمص إلى دمشق خمس ليرات سوريّة، وكان صاحب السيّارة، أو سائقها يأخذ العناوين ويذهب إليها، وكانت هذه الكراجات تقع بين حدود الساعة القديمة من جهة الشمال، حتى مقابل المتحف الوطني في حمص، والذي كان مقرّاً لرئاسة بلديّتها، ولم نكن قد عرفنا “البولمانات”، و”بولمانات رجال الأعمال”، ولا “الكرنك” الذي له أطيب الأثر في ذاكرتنا.

صباح اليوم المحدّد للعودة، وقفتُ قرب باب الدار التي أسكنها، بانتظار مجيء السيّارة، وكان الوقتُ ما زالتْ تغلب عليه العتمة، ويصعب معرفة ما يمرّ بك، أو يقترب منك، ونظرت في ساعتي مستعيناً بقدّاحة في جيبي، ففوجئتُ أنّ السائق قد تأخّر وقلقتُ قلقاً شديداً، لأنّ هذا يعني أن نتأخّر في الوصول، وحين ازداد قلقي ولا حيلة لي شاهدتُ أضواء سيّارة تقترب فاستبشرت، وكان مَن أنتظر، وقبل أن أصعد للسيّارة قلتُ له: “لقد أقلقْتني يا رجل”، وكان الضوء بالكاد يسمح لي برؤية ما إذا كان ثمّة مَن يجلس في المقعد الخلفي”؟، فقال لي معتذراً بشيء من التذمّر: “يا أستاذ السبب الآنسة”، وأشار بيده إلى المقعد الخلفيّ، فتبيّنت واحدة من زميلاتنا، فقلتُ لها: “صباح الخير لا تؤاخذيني”، فردّت وفي صوتها شيء من الخجل والاعتذار، والانكسار الطفليّ، قلت لها: “ألمُ تقولي أنّك تسكنين…”؟، وسردتُ العنوان الذي أعطتنيه، قالت خجلة بلهجتها الحمصيّة العريقة: “إي هدا العنوان”، قلت لها باستغراب: “إذنْ وين المشكلة”،؟!! فخجلت أكثر كما تبيّن من لهجة صوتها وقالت: “طلعْ مُو بيتنا”، قلت وأنا أشدّ استغراباً: “طلعْ بيت مين”؟!! قالت بالخجل ذاته: “طلعْ بيت حْماي”، قلت: “يعني كنتِ ساكنة مع بيتْ حماك، وتركتيه من وقت قريب”؟ قالت: لا والله إلي طالعة من بيت حماي اطنعشر سنة”، أدرتُ وجهي لكي لا ترى الضحكة التي داهمتْني، فقالت بنبرة جادّة: “مَشان ألله لا تحكيها لحدا”، قلت لها: “أعدك أنّي سأذكرها كلّما جاءت مناسبة تستحقّ أن تُذكَر بها، ووعدي أني لن أذكر اسمك”، رحمها الله فقد كانت من أنجح مديرات المدارس.

aaalnaem@gmail.com