مجلة البعث الأسبوعية

أشعار الروسي يفغيني يفتوشينكو

“البعث الأسبوعية” ــ إعداد: علاء العطار

يمتد شعر يفغيني يفتوشينكو عبر الزمان والمكان في تاريخ روسيا، فشِعره، سياسياً كان أم رومانسياً، يهدف إلى تهذيب ضمير كل من يقرأه، إذ يلمح إلى موضوعات يتكرر ظهورها في تاريخ روسيا، وتهدف إلى تقديم حلول لبداية جديدة.

أول وأهم ما نشده يفتوشينكو هو أن يكون مواطناً عالمياً، إذ أعرب في أول قصيدة نظمها عن رغبته في أن يكون مواطناً في كل بلد، وأن يتجسد في كل إنسان، فيستنسخ هذا الطموح حياة الأرستقراطية العالمية في الإمبراطورية الروسية، فقد أتيح للنبلاء منذ عهد بطرس الأكبر إمكانية السفر إلى جميع أنحاء أوروبا وخارجها، ثم إن بإمكانهم دخول المدارس الروسية والأجنبية، كما تعلموا أيضاً التحدث بلغات أخرى، فانفصلوا من نواح عدة عن واقع بلدهم الاجتماعي، لكنهم كانوا على احتكاك بالحياة الثقافية في أوروبا، ويتعلمون شكلها ويضيفون إليها.

وعائلة الروائي الأرستقراطي فلاديمير نابوكوف، ونشأته، دليل على هذه الحياة العالمية، إذ سافر في جميع أنحاء أوروبا قبل أن يدرك الفرق بين بلد أو آخر (باستثناء حقيقة أنهم يتحدثون لغات مختلفة)، وتعلم الإنكليزية قبل أن يتعلم الروسية، وحظي بمربيات أجنبيات يتحدثن لغتهن الأم فقط، وعلى الرغم من أن هذا يضاف إلى الفصل الاجتماعي للطبقة الأرستقراطية عن بقية سكان روسيا، فقد كان له تأثير مفيد في الثقافة الروسية، ما أعطاها دفعة للأمام، بما يتوافق مع الثقافة الأوروبية ولكن بنكهة روسية فريدة.

ترتبط هذه العالمية أيضاً برغبة يفتوشينكو في معرفة كل شيء، والتواجد في كل مكان، والانتماء إلى جميع الأزمان. وبالمثل، بذل الباحثون الروس الكبار قصارى جهودهم في سبيل ذلك، وأفضل مثال بينهم العلامة الروسي ميخائيل لومونوسوف، الذي يتحدر من عائلة ريفية، والذي صعد السلم لينال احترام الجميع عبر شغفه بالمعرفة وفطنته في العلوم، وكان ارتقاؤه بالكيمياء والفيزياء والنحو سابقاً لعصره، وساعد أجيال العلماء والكتاب اللاحقة في تطوير فنونها.

كما أن كتّاباً روسيين، أمثال بوشكين وغوغول ودوستويفسكي وتورغينيف، وسعوا نطاق المعرفة لتشمل علم النفس والشبكة المعقدة من المشاعر الإنسانية والعلاقات مع المجتمع. زيادة على ذلك، يظهر تحرّق يفتوشينكو إلى المعرفة في ميول من تلا بطرس الأكبر في الحكم، وخاصة الإمبراطورتان آنا وإليزابيث وكاثرين الثانية، فكان بناؤهما للمدارس ودعمهما للبعثات العلمية حاسماً لروسيا وللعالم بأسره.

وهناك مواضيع إيجابية أخرى في أشعار يفتوشينكو، فهدفه عند كتابة الشعر هو إلهام الآخرين ليجهروا بآرائهم، وهو ما فعله العشرات قبله في التاريخ الروسي وعانوا من العواقب، أمثال ألكسندر راديشيف وألكسندر هيرزن وفلاديمير بلسنكي وبيوتر تشادييف وميخائيل باكونين ومجموعة بيتراشيفسكي، وغيرهم. وقد أُرسل راديشيف إلى سيبيريا بسبب ذلك، وحلّت مجموعة بيتراشيفسكي، وأرسل دوستوفيسكي إلى سيبيريا، بينما انتهى المطاف بتشادييف في مستشفى للأمراض العقلية. ونلاحظ في هذا جانباً آخر من شعر يفتوشينكو: احترامه للصحفيين، إذ يعدهم الوحيدين الذين يجهرون بآرائهم، إذ توقف الشعراء في نظر يفتوشينكو عن قول أي شيء من خلال فنهم، بينما استل الصحفيون أقلامهم ومضوا في المعركة كما فعل الكبار من قبلهم.

لكن لا يخلو شعر يفتوشينكو – للأسف- من موضوعات سلبية، إذ تصور قصيدة “بابي يار” – مثلاً – المذابح المنظمة التي امتدت عبر روسيا على مدى سنوات بأسلوب يحرك المشاعر، وتتحدث قصائد أخرى، مثل “نامي يا محبوبتي”، اللغة نفسها التي ينطق بها شوق وعذاب الأرستقراطيين والليبراليين الذين هاجروا من روسيا هرباً من حنق البلاشفة.

الصور الريفية الجميلة والحث على السعي وراء تحقيق الأحلام والشعور بأن العشاق عندما يسقطون، سيسقطون معاً، كلها موجودة في صفحات هؤلاء المهاجرين الذين كتبوا عن البلد والثقافة التي أتوا إليها والتي تركوها وراءهم. وبالرغم من أن هذا العالم قد أفل بلا عودة، إلا أنه سيعيش من خلال كتاباتهم.

ختاماً، يفغيني يفتوشينكو هو شاعر الضمير، ويحيي إرث الآلاف ممن سبقوه في الجهر بآرائهم، والبحث عن المعرفة، وإثراء الثقافة الروسية دون أن يُغفل بيئة العالم الكبرى، والحفاظ على أجزاء هذا العالم التي تتلاشى من الحاضر، وتراه بذلك يصيغ بالكلمات ما قاله آخرون بأفعالهم: رفض السعادة والحرية على حساب من يفتقر إليهما.

ولد يفتوشينكو في 31 تموز عام 1932، ونشر أول قصائده عام 1949، وبعد 3 أعوام صدر أول كتاب له بعنوان “كشافة المستقبل”، ومن ثم أصبح أصغر عضو في اتحاد الكتّاب في الاتحاد السوفيتي.

كان يفتوشينكو، عام 1960، يتلو أشعاره مع مجموعة من الشعراء في متحف البوليتكنيك بموسكو، وبات لاحقاً أحد رموز ذوبان “الجليد العقائدي” لتلك الحقبة، على حد قول الكاتب إدوارد سافين؛ وانتقل منذ عام 1991 للعيش في الولايات المتحدة، وتوفي فيها عن عمر ناهز 85 عاماً.

وتلك قصيدتان من أشعاره:

“فاتحة”

كثيرٌ جدًّا أنا.

مستنزفٌ، مُرهق،

مُعطَّلٌ أنا.

لي ألفُ حلمٍ أنا

تخذلني الجهات.

ولا أليقُ، لا أليق..

بأي شيءٍ هُنا.

أنا العصيُّ الغريب،

أنا الخجولُ الوقِح،

أنا البغيضُ الطيِّب.

أحبُّ كلَّ هذا،

أحبُّ كيف يكتمل الشيء بشيءٍ آخر،

أحبُّ كيف يندمجُ كلّ شيءٍ بداخلي:

من الشرقِ إلى الغرب،

من الحسدِ إلى الرضا.

لا بدَّ أنكم تتساءلون الآن:

ما الغايةُ المُجملة في كل هذا؟

ثمَّة جدوى باهرة في كل هذا الشيء!

لا منجى لكم مني!

أنا الركامُ العالي

ككومة قشّ على ظهرِ شاحنة.

في الأصواتِ أطير،

وفي غصونِ الشجر،

يُصادقني الضوء والتغريد،

وفراشاتٌ ترتعشُ في عيني.

ونبتة من شقوق الطريق.

ألقي السلامَ على كل الجهات،

على الشغف، على الشغف المبتهج بنصره.

حدودُ العالم كلها في طريقي.

يُربكني ألّا أجد عاصمة الأرجنتين في نيويورك.

أريدُ أن أتنزَّه عبر شوارع لندن،

وأن أتحدَّث إلى الجميع،

حتى لو كان ذلك بإنجليزية مكسورة.

أريد أن أتمشَّى في باريس أول الفجر،

وأتنقل من حافلة لحافلة كطفل.

أريد للفن أن يكون متنوعًا،

كما هي نفسي.

وماذا لو كان الفنُّ شقائي؟

ماذا لو كان الفنُّ مضطهدي من كل الجهات؟

أنا محاصرٌ أصلاً.

رأيتُ نفسي في كل شيء.

أشعر بالانتماء ليسينين،

لويتمان،

أشعر بالانتماء لموسورسكي وهو يحتضن المسرح،

لغوغان ورسوماته البكر.

أريدُ أن أغرس زلاجاتي في الشتاء،

وخربشاتي على الورق،

وأن أقضي لياليَ طوالاً مع الأرق.

أريدُ أن أقول لعدوٍّ في وجهه: لا،

أن أمشي مع امرأة على ضفة نهر،

أن ألتهم الكتب،

أن أحمل خشب المدفأة،

أن أحمل الصنوبر،

أن أبحث عن شيءٍ لا أعرف.

وفي حرارة أغسطس أريد أن أتلذذ بشرائح

البطيخ القرمزية الباردة.

أريدُ أن أغني، أريد أن أثمل،

أن أرمي الموت ورائي.

بذراعين مفرودتين

أريد أن أتمدّد على العشب.

ولو حدث، في هذا العالم الوحشيّ، موتي

فسأموت من فرط الفرح الذي عشته.

 

“لن أقبل بالنصف”

لا، لن أقبل بالنصف، لن أقبل أنصاف الأشياء.

أعطني السماء كاملة، أعطني الأرض بما فيها.

البحار والأنهار والجبال والانهيارات الثلجية.

كلها ملكي، لن أقبل بأقل من ذلك.

لا يا حياة، لن تخيفيني بالنصف.

أعطيني الكلَّ أو لا شيء، كَتِفِي أهلٌ للحمل.

لن أقبل نصف سعادة،

لن أقبل نصف الأحزان.

وسادة واحدة يمكنني أن أشاركها،

وسادة يفترشها خدٌّ ناعم،

كنجمة بائسة، كنجمة هاوية،

كخاتمٍ يومض في إصبعٍ من يدك.