الحب الخالد.. رسائل ميرنا إلى ألبيرتو
كتبت ميرنا: منذ المرة الأولى التي انطبعت فيها صورتك في عيني أصدر قلبي تلك النبضة المختلفة، وما عاد يضخ دمه صافياً. أصبح ممزوجاً بحبك.
ورد ألبيرتو: ما بيننا لم يكن حباً عادياً. كان أعمق وأقوى من كل المشاعر والعواطف. لا الكلمات، ولا الحروف قادرة على وصفه أو التعبير عنه، لذا كان من واجبي أن احتفظ برسائلك كما هي ليبقى حبنا خالداً. كنت وستبقين الحبيبة الغالية.
هذه الكلمات أخذناها من الحوارية المكتوبة على غلاف كتاب الحب الخالد، رسائل ميرنا إلى ألبيرتو، وهو من تجميع وتوثيق الكاتب محمد مفضي سيفو.
هذه الرسائل تعود إلى زمننا الجميل، والبعيد عن صرعة الاتصالات الموجودة في عصرنا الحالي حيث كان الصفاء الروحي والذهني والعاطفي، وكانت فيه الأحاسيس نابضة ومشتعلة دالة بذلك على روعة الشام التي تماشي مياه بردي وعين الفيجة وتشهق في علوها لتعانق ذرى قاسيون.
لقد شاهدت كاتبة هذه الرسائل الدمشقية فيلماً في السينما يحكي عن سيرة بطل عانت أمه كثيراً في تربيته، وحين كبر توافرت فيه صفات الرجولة، ليتمتع بشخصية متكاملة ليس فيها من عيب يذكر، وشاءت المصادفات أن ترى الطالبة، أو البطلة في الأيام التالية شخصاً يشبه الشخصية السينمائية التي شاهدتها في الفيلم، ثم اكتشفت فيما بعد أنه مدرس اللغة الانكليزية، وقد أطلقت عليه اسم ألبيرتو، وشاع هذا الاسم في المدرسة، وبين جميع الطالبات، كما أطلقت على نفسها اسم ميرنا التي كتب لها الرسائل لمدة خمس سنوات وتمت خطوبتهما في السنة السادسة.
في هذه الرسائل قصة رومانسية حالمة تنتمي إلى زمن له علاقة بالأحلام الكبيرة، والصغيرة أيضاً، وقد كانت المعاناة والصعوبات تقف بالمرصاد لقلوب العشاق والمحبين، وربما كانت حلاوة عشقهم وجمالياته تكمن في تلك الصعوبات على وجه التحديد، وقد كتبت ميرنا ذلك معلنة عنه في قولها: “أظن أن هذا الدرس الأخير. ترى ما هي طريقة اتصالنا بعد ذلك؟. في العام القادم سأكون بعيدة في مدرسة داخلية في دمشق. هذه إرادة والدي” وهذه الكلمات تظهر صعوبة التواصل، كما تظهر تأثر من كتبها والمجتمع برمته آنذاك بالسينما المصرية التي وصلت عروضها إلى صالات دمشق وباقي المدن السورية كما نجدها متأثرة بالأغاني السائدة في ذلك وهي تختم رسالتها بالقول مثلاً: ردد معي قول أم كلثوم ” وإن مر يوم من غير ذكراك ـ ما ينحسبش من عمري”.
ونأخذ من الرسالة الأولى هذه الكلمات تدليلاً على أهمية المشاعر ورفعة الحب، ورقي الكلمات التي تقال للمحبوب: “هل نسأل الزهور لماذا تتفتح وتنشر عبيرها، هل نسأل البلابل لماذا تشدو وتغرد، وهل نسأل النسائم لماذا تحمل الأريج فتدخله إلى الصدور والقلوب، هل نسأل الربيع لماذا يزورنا” وحرصاً على مصداقية ما جاء فيها فقد وضع الكاتب تاريخ كل رسالة فوقها، لكنه يقر أن قسماً منها قد فقد نتيجة الخوف من الرقابة الصارمة المفروضة على فتيات ذلك الزمان، وقد حاول ألبيرتو تعويض ذلك وسد الفراغ بما كتبه من خواطر.
الملاحظ أن بدايات هذه الرسائل جميعاً تنم عن الأناقة والسمو والرفعة ونأخذ منها على سبيل المثال قولها: “حبيبي الغالي. تحية الحب والشوق”، وفي مكان ثان تقول: “يا أغلى الناس. تحية الحب الأبدي والوفاء الخالد”، وفي مطرح ثالث تقول: مهجتي وربيع حياتي، تحية القلب الظامئ لرؤياك” وقد كان تاريخ أخر رسالة في العام 1968م.
لم تكن رسائل ألبيرتو تقل أهمية عن رسائل حبيبته، فقد كتب لها الكثير منها، لكن ما كتبه في النهاية يدل على أن شيئاً ما قد حدث وغيّر تلك المسيرة الحافلة بالعشق ورائحة الحياة، والنهايات تلعب فيها غالباً رياح القدر، حيث يختم قوله ليكون خاتمة لهذا الكتاب بتلك الكلمات: “عدت لأودعك، ولأنقذك من المرض. سامحيني لقد استقبلتني عندما عدت، ولم أستطع إلا أن أودعك رغم كل محاولاتي. عسى أن يكون لقاؤنا في السماء”.
ختاماً لابد من الإشارة إلى الجهد الكبير والواضح الذي قام به الأستاذ محمد مفضي سيفو في جمع وتوثيق مثل هذه الرسائل التي تذكرنا بزمن حالم تفوح منه رائحة الياسمين المتوجة بصدق المشاعر والأحاسيس ونبلها، وبرأي أن هذا العمل يكاد يكون رواية متكاملة تحضر فيها بطولة الشخصية مع الزمان والمكان، ولو تم العمل على هذا الأساس وشرطه الفني لخرجت رواية باهية فيها الكثير من الجمال القائم على سرد رشيق وممتع.
محمد الحفري