ثقافةصحيفة البعث

جلال الكردي بين القراءة وشارع الفيلات

غالية خوجة

تمنحك مدينة حلب مشاهد من المتناقضات وأنت تمشي بين شوارعها وأزقتها، وتشدّك إلى آثارها القديمة لتتأمل العصور وهي قيد إعادة تأهيل وبناء، فتسمع أصوات حجارتها المتجذّرة في هذا الوطن تُنشد معك للانتصار وللمتغيرات التي تراها في أماكن أخرى وكأنها لوحات مفاهيمية وسوريالية بين معاناتها من الحرب الظلامية الإرهابية وبين استعادتها لحيويتها المتدرّجة بألوان العمل والأمل.

حلب مدينة سوريالية

في الشارع ذاته، قد تمرّ بمتشرد، ومتسول، وعاشق، وعائلة تفترش الأعشاب، وتصغي لقرع الكنائس وآذان المساجد، وأصوات الباعة، وعجلات السيارات، ومواء القطط، واستراحة الكلاب مع أصدقائها، وحمار يجرّ العربة، وعربة خضار يدفعها بائع متجول، وشباب يحتسون القهوة، وصبايا يتسارَرْن، وعجائز منهم من يتوكأ على عصاه، ومنهم من يمشي ببطء مفصحاً عن إرهاق السنين وفقدان أفراد العائلة، أو هجرة بعض الأبناء، بينما ترى المطاعم والمقاهي مكتظة في كل مكان، حول القلعة، العزيزية، شارع بارون، السليمانية، حول الجامعة.

وهنا، في شارع الفيلات الممتد حول نهر قويق، تشاهد الحلبية من مختلف الأعمار، وهم يمارسون هواية رياضة المشي، ويجلسون على سور النهر الحجري، على العشب، بينما أشجار النخيل تترك لثمارها أن تتدلّى كما الثريات، لتتلصّص أشعة الشمس على المدينة بلطفٍ، ثم لتنسحب آنَ المساء، فيبدو القمر بمراحله المختلفة متحركاً بين العابرين وضحكات الأطفال وشرود أهاليهم المتحدي للغد بمزيد من “الأمل”.

وبينما أمشي في شارع الفيلات لعلني أتخلّص من الشوارد السلبية بعد وفاة أمي رحمها الله، رأيت رجلاً جالساً على أحد الكراسي ويقرأ، ويبدو من بعيد شبيهاً إلى حدّ ما بالدكتور الكاتب فريد جحا رحمه الله، فسلمتُ عليه وأخبرته بما يجول بخاطري، فتبسّم مجيباً: أعرفه وهو من أعلام حلب، وتابع: أعرف أغلب كاتبات وكتّاب حلب، وذكر لي أسماء في المشهد الثقافي خلال نصف قرن بدءاً من الآن، منها مأمون الجابري، عبد الوهاب صابوني، منير داديخي، خليل هنداوي، وبعض الذين ما زالوا على قيد الحياة.

وذكر أنه قرأ لي شعري وكتاباتي، لكنه لم يعرفني ولم أعرّفه بأني تلك التي يقصدها إلاّ في نهاية الحوار الذي بدأته بسؤال عن نفسه واسمه وعلاقته بالكتاب والقراءة وجلسته الحضارية في هذا المكان، فأجاب: جلال الكردي، محام، وقارئ، من مواليد حلب 1936، أقرأ بشكل مستمر، وأكتب الشعر منذ أكثر من 40 عاماً، لكنني لم أنشر قصائدي.

وعندما سألته: لماذا؟..

أجاب: لأن مهنة المحاماة استوعبت كل حياتي وعمري وطاقتي وتفكيري، فلم أترك مرجعاً قانونياً عربياً أو أجنبياً إلاّ وراجعته بقصد تنمية مواهبي القانونية، وما زلت حتى بعد التقاعد أطلع على الكتب القانونية.

القوانين بحاجة لحياة جديدة 

تساءلت: ألا تحتاج قوانيننا إلى تغيير أو تعديل برأيك لتناسب حياتنا أكثر، ومنها قانون الأحوال الشخصية؟.

أجاب: في كثير من الجوانب القانونية نحتاج إلى تغيير وتبديل، ولاسيما الأحوال الشخصية الذي أكل عليه الدهر وشرب، وله الكثير من الجوانب السلبية، أهمها أن المرأة السورية لم تنل حقها الصحيح مع تطور الزمان، لذلك، يجب تعديله بما يتناسب مع إنتاجية المرأة ومكانتها الاجتماعية لأنها شريك حقيقي وفاعل في الحياة، وقدّمت الكثير لهذا الوطن، “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق”، هي الأم والأخت والمعلمة والممرضة والطبيبة والمحامية، ويجب أن تعطى حقها. وأضاف: لا بد من تعديل المهور، وإعادة النظر في إعطاء فسحة كبيرة من الحرية المنسجمة مع التطور العالمي، لأن المرأة السورية لا تتمتّع بالحقوق الإنسانية التي يجب أن تتمتّع بها، ولا بد من إعادة النظر في المفاهيم الذكورية والاجتماعية والقانونية لتكون أفضل لحياة أفضل تبني الإنسان.

وتابع: الإنسان دون قراءة يظلّ فارغاً، لأن العقل يجب أن يتغذى دائماً كأي عضو من أعضاء الجسم ليظل في صحة نفسية راقية، وأنا مع القراءة في مختلف المجالات، ولا بد من الاطلاع، أيضاً، على جميع ثقافات وآداب وعلوم ولغات العالم سواء القديمة أو الحديثة، وعلى الإنسان أن ينمّي قواه البدنية ومنها العقل لأنه لا بد من انسجام بين العقل والجسم، لأن العقل السليم في الجسم السليم، فإذا ما تقدم الإنسان بالعمر يكون مؤهلاً لاستقبال حياة جديدة بعد العمل لسنين، ليأتي دور الراحة والتأقلم مع الواقع، وهذا نوع من أنواع الذكاء، ونسأل الله أن ينعم على هذا الوطن بالطمأنينة والنهوض بكافة المجالات العلمية والثقافية والبناء.