التحركات التركية في القرن الأفريقي.. أطماع سياسية واقتصادية
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
في حين أن المصالح والإيديولوجيات المتضاربة بين أنقرة ومنافسيها على زعامة الإسلام السياسي، في المنطقة، لا تزال تشكل الديناميات الفاعلة للصراع في القرن الأفريقي، إلا أن تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن باتباع سياسة خارجية تركز على “حقوق الإنسان” أثار مخاوف من أن يصبح الجميع هدفاً لغضب واشنطن، ما كرس حالة من الهدوء النسبي سادت علاقات مؤخراً علاقات الأطراف المتنافسة، كما وفّر فرصة فريدة لواشنطن للمطالبة بالقيادة.
وكانت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الشهر الماضي، عن نيته التبرع بمبلغ 30 مليون دولار للصومال، أثارت انتقادات واسعة في الشارع التركي، وسخطا كبيراً لدى الأتراك الذين احتجوا على عجز الدولة عن مواجهة الحرائق المشتعلة وتقديم الدعم المالي والتعويضات الفورية للمتضررين.
وقد كشف برلمانيون ينتمون لأحزابٍ معارضة للرئيس التركي أن المديرية العامة للغابات أنفقت 2% فقط، خلال الربع الأول من العام الجاري، من الميزانية المخصصة لها سنوياً لمواجهة الحرائق، وسط علامات استفهامٍ حول اختفاء ما تبقى منها.
واعتبرت المعارضة التركية أن عملية تحويل 30 مليون دولار إلى الصومال هي ترف غير مبرر، خصوصاً بعد فرض الحكومة قيوداً جديدة على الإنفاق الحكومي، وصولاً إلى خفض تكاليف الورق وحركة السيارات الرسمية.
لكن اهتمام أردوغان بالصومال ليس مجرد نزوة عابرة أو لفتة إنسانية، فالنظام الحاكم في مقديشو هو الحليف الرئيسي لأنقرة في القارة الأفريقية. ومنذ عام 2005، تعمل تركيا بنشاط على تطوير “التعاون الشامل” لتعزيز نفوذها الجيوسياسي في المنطقة. واليوم، تدير شركات تركية موانئ مقديشو الجوية والبحرية، وتغرق الأسواق الصومالية بالبضائع التركية، وتنفذ الخطوط الجوية التركية رحلات مباشرة نحو العاصمة.
وبحسب الباحث في العلوم السياسية، أحمد الباز، فإنه “لا يمكن فصل التحركات التركية في الصومال بعيداً عن الأهداف الاقتصادية، حيث دشنت تركيا في أفريقيا، على وجه العموم، العديد من الشراكات، وهو ما يوفر لها فرصة للتمدد في القارة السمراء على أصعدة أخرى، وخصوصاً الصعيد السياسي، واستخدام الكثير من دول القارة كصوت بديل لتركيا في المجتمع الدولي”.
ويثير النفوذ التركي في الصومال، ودول أخرى، قلقاً متزايداً، لاسيما أن الحضور في هذا البلد الهش أمنيا، يأتي فيما تبدي أنقرة أطماعاً في أكثر من بلد مضطرب من أجل حصد منافع اقتصادية.
لكن مراقبين يؤكدون أن أهداف تركيا تتعدى التعاون الاقتصادي والتجاري، فالتحركات التركية في القرن الأفريقي تأتي ضمن السجال السياسي مع دول مصر والخليج. وعلى مدى العقد الماضي، بلغ إجمالي المساعدات المقدمة لمقديشو أكثر من مليار دولار، حيث تنافس أردوغان وحلفاؤه القطريون ضد منافسيهم المصريين والخليجيين على النفوذ في القرن الأفريقي.
أصبح التدخل المتزايد لدول الخليج في القرن الأفريقي، منذ العقد الماضي، بؤرة توتر أخرى في الصراع الإقليمي فيما يتعلق بالأيديولوجية والتضاريس الإستراتيجية. فالقرن يتاخم البحر الأحمر، الذي يقع بين ممرين بحريين رئيسيين تعتمد عليهما التجارة البحرية الدولية وحركة المرور: مضيق باب المندب في الجنوب وقناة السويس في الشمال. كما أن الصومال يطل على حوض المحيط الهندي الأوسع، وهو بحد ذاته طريق رئيسي للأمن البحري والتجارة. ومع احتدام السباق الرئيسي في المحيط الهندي، كانت دول الخليج حريصة على تأمين مصالحها الخاصة.
من الناحية الإيديولوجية، يشكل القرن ساحة أخرى، مثل ليبيا وتونس، حيث يسعى أردوغان وشركاؤه القطريون إلى تعزيز نفوذ الإخوان المسلمين. بالمقابل، عملت السعودية والإمارات بنشاط في إريتريا وإثيوبيا والصومال والسودان لمواجهة المحور التركي القطري، وقد أدى التنافس بينهما إلى اندلاع أزمة في الصومال، في وقت سابق من هذا العام، حيث كاد محمد عبد الله، رئيس البلاد المدعوم من الدوحة، يتسبب بنزاع مسلح أثناء سعيه لتأجيل الانتخابات. ويأتي ذلك في أعقاب تحذير زعماء المعارضة الصومالية في أيلول الماضي من أن عبد الله قد يستخدم الأسلحة التركية لـ “اختطاف” الانتخابات المقبلة.
في ذروة ما يسمى بـ “الربيع العربي”، استثمر أردوغان في توسيع نطاق الوجود الإقليمي لجماعة الإخوان المسلمين. وفي عام 2012، حذرت “مجموعة الأزمات الدولية” تركيا من دورها المزعزع للاستقرار في الصومال، وأوصت أنقرة بأن “تخطو بحذر وتتجنب الأحادية وتتعلم الدروس لتجنب تدخل دولي فاشل آخر”.
بعد التراجع الحاد لجماعة الإخوان المسلمين مع تحول ما يسمى بالربيع العربي إلى شتاء مرير، أعطى الرئيس التركي الأولوية للرد على منافسيه الخليجيين ومصر على جميع الجبهات، بشكل مباشر ومن خلال وكلاء، حيث عززت السياسة الداخلية هذا الدافع. فتراجع قاعدة الدعم لأردوغان، واعتماده على الفصائل القومية المتطرفة والأوراسية في الداخل، قاده إلى تبني المفهوم البحري الوحدوي للوطن الأزرق لتركيا، ومعه عزز الطموحات الخارجية التي تمتد إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي.
في العام 2016، خلال زيارته للصومال، قام أردوغان بافتتاح أكبر سفارة تركية في العالم، في إشارة إلى أهمية القرن الأفريقي بالنسبة لتطلعاته الأوسع. فعلى الرغم من أن الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير، الحليف المقرب لأردوغان، أخرجت خطط أنقرة عن مسارها لإعادة ترميم الميناء في جزيرة سواكن السودانية للاستخدامات المدنية والعسكرية، إلى جانب قطر، التي وقعت اتفاقاً منفصلاً مع السودان لترميمه، لا تزال تركيا تحتفظ بأكبر قاعدة عسكرية خارجية لها في مقديشو.
وتشير الخلافات حول الدور التركي في مقديشو إلى الطرق التي يمكن من خلالها أن تتداخل المصالح الأيديولوجية والشخصية للرئيس التركي في القرن الأفريقي. فقد أعلنت الحكومة الصومالية، أنها سلمت بشكل رسمي مهام تشغيل ميناء مقديشو لشركة البيرق لمدة 20 عاماً، وأن موظفي الميناء سيواصلون عملهم تحت إدارة الشركة التركية التي تمتلكها عائلة بيرات البيرق صهر الرئيس التركي، ما وفر لأنقرة نقطة وصول مهمة على المحيط الهندي.
وتتنوّع الأهداف التي تسعى تركيا للحصول عليها داخل القارة الإفريقية، وإن كان ظاهرها يبرز في منافع اقتصادية واسعة، إلا أنّها تتعدّى ذلك كله إلى مرحلة التوسّع الإقليمي- الدولي، وذلك بالاستناد إلى الإرث العثماني في هذه المنطقة، وهو ما يؤكِّد نظرية “العثمانية الجديدة”، وكذلك من خلال المساعدات الإنسانية، وخصوصاً من البوابة الصومالية، بالإضافة إلى الاستثمارات وتوسيع التبادل التجاري، والابقاء على الأدوات السياسية والدبلوماسية، والاتفاقيات الحكومية، وزيارات أردوغان المتواصلة، علاوة على بناء القواعد العسكرية، حيث يميل الميزان العسكري لصالح تركيا بأضعاف الميزانيات العسكرية لدول القرن الأفريقي.
وأياً كان الأمر، فإن النموذج الأردوغاني، الذي ينطلق من أطماع قوية وأحلام إمبراطورية تاريخية، يستند في مشروعه التوسعي إلى الاعتماد على القوة العسكرية جنباً إلى جنب مع الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية. ويشبه حديث إردوغان، عن ذهابه إلى التنقيب عن نفط قبالة سواحل الصومال إلى حد كبير، حديثه بشأن المذكرتين اللتين أبرمتهما تركيا مع رئيس حكومة طرابلس، فايز السراج، ومُنحت أنقرة بموجبهما ميزات استراتيجية.
وفي حين أن المصالح والأيديولوجيات المتضاربة لا تزال تشكل الديناميكيات الفاعلة في القرن الأفريقي، أدى انتخاب جو بايدن كرئيس إلى إعادة حساب للسياسات المصرية والخليجية والتركية تجاه المنطقة.
بالنسبة لجميع المتنافسين في منطقة القرن الأفريقي (الأتراك والقطريون مقابل مصر وباقي دول الخليج)، أدى تعهد بايدن باتباع سياسة خارجية تركز على “حقوق الإنسان” إلى مخاوف من أن يصبح الجميع هدفاً لغضب واشنطن، كما أدى وعد بايدن باستعادة الاتفاق النووي الإيراني إلى خلق حالة إضافية من عدم اليقين، ما أدى إلى إزالة المحورين لبعض خلافاتهما العالقة تحت البساط في الوقت الحالي.
تعكس خطوات أردوغان في القرن الأفريقي سعيه الكبير لعملية إعادة إحياء “العثمانية الجديدة”. ونظرة عن كثب للأنشطة التي تتبعها تركيا، خاصة المتعلقة بالتمدد التركي الجديد في الصومال، كافية للتأكيد على أن أطماع التمدد الإقليمي الأردوغاني لن يتغير وأن التهدئة الحالية بالضرورة، لا تعني تغيير السياسة.