مجلة البعث الأسبوعية

هل هناك أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟.. ماكرون “الأبيض” المقيت!!

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن

لم يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سوى الاستثمار في الجزائر وتاريخها وآلام شعبها لاستعادة بعض من رصيديه السياسي والانتخابي اللذين عصفت بهما “صفقة الغواصات” الأسترالية الشهيرة بتبعاتها الاقتصادية القاتلة والسياسية الفاضحة لحقيقة محدودية قدرته، وبلاده، على المستوى الجيواستراتيجي العالمي، فالرجل الذي أعاد “مذعناً” سفيريه إلى واشنطن وكانبيرا بعد “عرض للقوة” عقب استبعاده من تحالف أوكوس، تساءل مؤخراً في استعلاء استعماري مقيت عن وجود أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي!!

والحال إن هذا السؤال كان ليبدو منطقياً لو أنه صدر من مؤرخ أو باحث سوسيولوجي يبحث في الأمم وأنماط تشكّلها ووجودها ودور القوى الخارجية المستعمرة في توحيدها أو تفتيتها، ولكان مفهوماً حينها في سياق البحث عن حقيقة تاريخية ما، لكّنه، وبنبرة السخرية والاستعلاء المرافقين له، وبطبيعة السياق الذي صدر فيه، لم يكن إلا دليلاً بيّناً على خلفية الرجل العنصرية من جهة أولى، ومحاولة مقصودة، من جهة ثانية، للترويج لنسخة تبريرية جديدة لقصة استعمار الرجل الأبيض الذي تنكّب المصاعب كي يحضّر، وينوّر إنسان الجنوب المتخلف والبربري ويقيم له دولة ويجمعه مع أقرانه في أمة مكتملة الأركان، كما أنه، أي التصريح، يكاد يفصح، من جهة ثالثة، عن رغبة مجرمة في استعادة الزمن الاستعماري، ولو بأشكال مختلفة، يبدو استعمار الذاكرة صورته الحديثة في عالم حقوق الإنسان المزعوم هذا.

بيد أن التاريخ القديم والبعيد لا يساعدان، في وقائعهما الدالّة والمثبتة، ماكرون وأضرابه في سعيهما المحموم لتبرئة هذا “الأبيض” الكبير، والصالح، من جرائمه التي اقترفها أساساً بهدف سرقة الثروات ونهب الموارد الأولية التي بنى عليها لاحقاً نهضته الاقتصادية واستلزم استمرارها ونموّها إبقاء الجنوب مصدراً مباحاً للثروات وسوقاً مفتوحة لتصريف السلع ومخبراً جاهزاً للتجارب النووية والبيولوجية لا أكثر ولا أقل.

 

مجازر ونووي .. وجماجم “للفرجة”!!

عام 2016، كشفت وسائل إعلام فرنسية عن وجود 18 ألف جمجمة تعود لجزائريين قُطعت رؤوسهم محفوظة في “متحف الإنسان” في باريس.. نعم!! “جماجم” بشر معاصرين، أي ليسوا من بقايا إنسان الكهوف، وفي عاصمة الأنوار، 500 منها فقط تم التعرف على هويات أصحابها، وأعيد 24 منها فقط للجزائر.

قبل ذلك بكثير، وفي 13 شباط عام 1960، لم تجد فرنسا سوى الأرض الجزائرية والشعب الجزائري، في سياق سعيها لدخول النادي النووي، لتجري وتختبر عليهما أول تجربة نووية لها “بقوة 70 كيلو طناً”، أو ما يعادل من ثلاثة إلى أربعة أضعاف قنبلة هيروشيما الشهيرة؛ وما بين عامي 1960 و1966، وبحسب مسؤولين فرنسيين، أجرت سلطات باريس الاستعمارية سلسلة تجارب نووية في الصحراء الجزائرية (4 فوق الأرض و13 تحتها) كان لها تداعيات إشعاعية كارثية لا زالت مستمرة حتى اللحظة، نتيجة رفض السلطات الفرنسية تقديم خرائط أماكن التفجيرات للسلطات الجزائرية للبدء بمعالجة آثارها.

أكثر من ذلك، تؤكد تقديرات دولية محايدة مقتل ما يقارب من 9 مليون جزائري، منذ 1830 إلى غاية 1962، وهي مدة الاستعمار الفرنسي، سقط منهم، بحسب الأرشيف الأمريكي، نحو 70 ألف شخص في أسبوع واحد بدأ يوم 8 أيار 1945 في مناطق سطيف وقالمة وخراطة خرجوا حينها في مظاهرات سلمية للمطالبة باستقلال بلادهم.

بيد أن الجريمة الفرنسية الأكبر هناك تمثّلت باتباع سلطات “باريس الأنوار وحقوق الإنسان المزعومة” سياسة إبادة موجّهة ومتعمّدة لثقافة وهويّة السكان الأصليين عبر فرض “الفرنسة” عليهم، والعمل الدؤوب على تفكيك أوصال مجتمعهم، وصولاً إلى إحلال مرتزقة فرنسيين مكانهم، واستخدامهم كوقود رخيص لآلتها العسكرية الضخمة في حروبها الاستعمارية في بلدان العالم المختلفة.

 

الجريمة المستمرة

والحال، ما سبق لا يمكن إدخاله إلا تحت بند الجرائم الكبرى ضد الإنسانية، وقد يقول البعض إنها حدثت في أزمنة سابقة وفي ظل نظام استعماري عالمي سائد ومتفق عليه، لكن ثلاثة حقائق صادمة تقول العكس تماماً، أولها حقيقة “استمرار التجارب البيولوجية على الجزائريين إلى عام 1978″، وثانيها رفض باريس منح الجزائر خرائط أماكن التفجير النووي المذكورة لمعالجة آثارها الكارثية، وثالثها رفضها الاستعلائي الاعتذار عن كل هذه الجرائم، وتلك ركائز ثابتة لجريمة مستمرة ارتكبت – ولا زالت – بقلب، وعقل، باردين ومجرمين.

 

مرارة فرنسية!!

والأمر، فإن تلك الحقائق وهذا التصريح الجديد يؤكدان معاً أن في الأمر شيئا من مرارة خسارة مُلك ما.. مُلك ثابت موروث لا يحق لأحد التشكيك فيه، والحقيقة أن للجزائر في العقلية الاستعمارية الفرنسية مكانة خاصة، فحتى حين خسرت باريس، بنتيجة الحرب العالمية الثانية، مستعمراتها في شرق المتوسط، واعتمدت الأمم المتحدة حق تقرير المصير لشعوب العالم المختلفة، إلا أنها استمرت، في “العصر الديغولي”، بجرائمها الاستعمارية هناك، حتى بعد نحو سبعة عشر عاماً من نهاية الحرب العالمية.

 

سبب انتخابي فاضح!!

وقد يقول البعض، مبرراً، إن هذا التصريح صدر في سياق انتخابي فرنسي يميل نحو المزايدة “يميناً” بين المرشحين، وهذا كلام لديه قدر كبير من الصحة، لكنه في النتيجة أكثر فداحة وخطورة، فذلك يعني أن الأمر يتجاوز شخص ماكرون ليشمل نخبة سياسية وثقافية، و”شعبية”!!” فرنسية لا زالت تعيش بعقلية استعمارية استعلائية ترفض حتى اللحظة الإقرار بجرائمها، وأكثر من ذلك، تصرّ على الاستمرار في استعمار دائم لا يقبل حتى مصالحة الذاكرة مع تاريخه ومع ضحاياه السابقين والمستمرين أيضاً.

 

السبب الاقتصادي

ولأن السياسة هي الاقتصاد مكثفاً، كما يقول البعض، فيبدو أن للأمر جانبا آخر يمكن فهمه من خلال مثال “استعماري” أحدث من الفرنسي، وهو المثال الأمريكي الذي يستمر بشن الحروب رغم فشله في تحقيق أهدافه الظاهرة منها، وتلك مفارقة لا يفسرها سوى الكشف عن حقيقة أهدافه الخفية، وهي، بحسب صحيفة “غلوبال تايمز” الرسمية الصينية، “سعي صناعات الدفاع الأميركية لتحقيق الأرباح من خلال الحروب. هي تؤمّن مقوّمات القوّة للولايات المتحدة للإبقاء على هيمنتها العالمية، وتجني الأرباح خلال هذه العملية. وطالما بقي التداخل بين مصالح صناعات الدفاع والاتجاه الأميركي للهيمنة الشاملة، لن تتعلّم واشنطن من دروس الماضي، وسيدفعها هذا التداخل إلى القيام بأعمال لا تستطيع تحمّل أكلافها”.

هنا نفهم أحد أهم أسباب محاولة ماكرون إبقاء التوتر قائماً، في أفريقيا تحديداً، كونها آخر مناطق نفوذه، وخاصة بعد صفعة خسارته لصفقة الغواصات الأسترالية، والتي كلّفت كارتيلات صناعة السلاح الفرنسية خسارة نحو 50 مليار دولار، وتكاد تكلّفه خسارة مستقبله السياسي إذا لم يعوضها بضجيج سياسي حول شخصه ودوره من جهة أولى، وحول بلاده من جهة ثانية، ليساهم هذا الضجيج الكلامي في إبقاء الحاجة مستمرة لضجيج آلات مصانع السلاح بحجة الدور الفرنسي والرسالة التنويرية و”عظمة” الرجل الأبيض الكبير..

وأمام المصالح لا معنى للإنسان وهمومه ومشاكله.. ومرحباً بالحروب التي أضحت، وكانت سابقاً، أهم الموارد التي تمد شرايين النظام الرأسمالي بالنسغ المطلوب للبقاء والتمدد.