تحقيقاتصحيفة البعث

لا تسمن لكنها تُغني من الجوع.. مسابقات التوظيف لم تعد تغري الشباب!

لم يلقَ القرار الصادر مؤخراً عن رئاسة مجلس الوزراء بتنظيم مسابقة للفئتين الأولى والثانية واختبار للفئات الثالثة والرابعة والخامسة في الجهات العامة للتعيين الدائم أو التعاقد المؤقت السنوي الوهج والتفاؤل القديم نفسه بتلك المسابقات وفرحة التوظيف لدى القطاع العام، وعلى الرغم من تأكيد وزارة التنمية الإدارية أن هذه المسابقة ستوفر ما بين 70 إلى 85 ألف فرصة عمل موزعة على جميع المحافظات السورية، وأنها ستعتمد الشفافية وتبسيط الإجراءات وتكافؤ الفرص وتلغي المحسوبيات، إلّا أنها لم تكسب ثقة خريجي الجامعات والمعاهد والعاطلين عن العمل، خاصّة وأن “المحسوبية” باتت “شراً لا بدّ منه” في تلك المسابقات، ناهيك عن ضعف الأجر الذي أدى لنفور هذه الشرائح من العمل تحت قبّة هذا القطاع.

مغريات العام

الراتب الثابت والتأمين الاجتماعي والراتب التقاعدي وغيرها من المزايا التي كانت تُكسب الموظف الحكومي “برستيجاً” خاصّاً وتجعل منه “عريس لقطة” لأي فتاة ترغب بالاستقرار مع موظف ذي راتب ثابت خلال سنوات ما قبل الأزمة، لم تعد تشكل اليوم ذات المغريات، وأصبح البحث عن العمل في القطاع الخاص أو المهن الخاصّة هو الهدف في ظل تدني القدرة الشرائية وانخفاض مستوى المعيشة، وفقد الحماس للعمل في القطاع العام بريقه شيئاً فشيئاً ولم يعد التأمين الاجتماعي والراتب التقاعدي يشكل هاجساً لدى معظم الشرائح، الأمر الذي لاحظناه خلال السنوات الأخيرة بتسرب نسبة ليست بالقليلة من اليد العاملة في القطاع العام إلى القطاع الخاص والورشات وغيرها من الخيارات التي وجدوا فيها ملاذاً يقيهم “العوز” الذي استفحل مع انخفاض الأجر الشهري الذي يفارق صاحبه منذ ساعات قبضه الأولى!.

فائض عمالة

في المقابل أكد الكثير من الشباب، وخاصة الجامعيين منهم، انصياعهم لرغبات أهاليهم في التقدم لهذه المسابقات عند فتح باب التقديم من باب المجاملة لذويهم ممن لا زالوا محافظين على “عقلية التفكير القديم” بأهمية هذه الوظائف، وكسبها في اليد مع البحث عن عمل آخر في المساء أو الليل، خاصة وأنّ العمل في القطاع العام لا يحتاج لجهد جسدي كبير، وأن هذا المجهود الضئيل لا يتناسب طرداً مع الأجر الضئيل لجهة أن ساعات العمل الطويلة تُعتبر إضاعة لهذه الفئة الشابّة التي يجب استثمار طاقاتها بشيء ملموس لا ضمّها إلى شريحة فائض العمالة الموجودة أساساً في أغلب مؤسسات وشركات القطاع العام، فهذا الجيش الكبير من العاملين في الدولة يرهق كاهل أي اقتصاد لدفع أجورهم الشهرية، والتي يكون جزء منها دون المقابل من العمل، لكن الخيار الأسلم للدولة الاستمرار بقوة بدفع تلك الأجور الشهرية لأنها أصبحت الرمق الأخير الذي لا يقبل النقاش.

إعادة هيكلة

اليوم وبحسب مصطفى الصالح (دكتور في الاقتصاد) يسعى القطاع الخاص لإيجاد قوانين تحمي العامل فيه، كما في القطاع العام، مع توفير بيئة عمل صحية تميل إلى الارتقاء بالموظف بشكل يفوق العام، وبرأيه شكّل هذا الإجراء عامل جذب لمعظم الفئات العمرية، حيث نشهد توّجهاً واضحاً لخريجي المعاهد والجامعات إلى القطاع الخاص، كما يتسرّب إليه أعداد كبيرة من العاملين في الدولة طمعاً بالعمل في بيئة راقية بجهد مضاعف مع أجر مضاعف، إذ لم تعد تُراود شبابنا فكرة “تقطيع الوقت” في العمل الإداري بالقطاع العام سعياً للحصول على راتب شهري كان يشكل عامل أمان للموظفين في سنوات ما قبل الحرب، لكنه اليوم لا يكفي “خرجية” طفل مدلل في المدرسة. ولفت الصالح إلى انتباه الحكومة لوجود نقص كبير في بعض المعامل والشركات والمؤسّسات بعد انتهاء الأزمة مع وجود فائض عمالة في أماكن أخرى، الأمر الذي حاولت تلافيه بإقرار مسابقات توظيف مطلع العام المُقبل، لكنّ وبرأي دكتور الاقتصاد فإن هذه المسابقات تُعتبر جرعة مهدئة وإبرة بنج لهذا القطاع الذي يحتاج لإعادة هيكلة وتنظيم وتصحيح إداري مع سعي جدّي في زيادة الرواتب والأجور، وإلّا سنقع في مشكلة أكبر وهي هروب أو تسرّب الموظفين العاملين خلال الدوام الرسمي والعمل في قطاعات خاصة أو مهن خاصة لكسب أجرين ثابتين بالكاد يسدّان الحاجة المعيشية.

الحلو المر

في المقابل وصف محمد وسوف “خبير إدارة عامة” المسابقة المُعلن عنها مؤخراً بالخيار “الحلو المُر”، إذ لم تعد المسابقات شمّاعة الأمل التي تغري المواطنين، خاصّة وأن رواتب الوظيفة الحكومية لا تكفي أجرة غرفة في المناطق العشوائية، لكن شبابنا يتوه اليوم بين البحث عن مصدر للعيش الكريم وتأسيس مستقبل مستقر، فالوظيفة الحُلم في القطاع الحكومي التي لطالما كان عصياً لم تعد طريقاً للخلاص وباتت آخر الخيارات، كما أنها لم تعد معياراً للاستقرار، ناهيك عن أنها لم تعد تكفي نقل الموظفين إلى أماكن عملهم في ظل أزمة النقل وارتفاع أسعار المحروقات وعدم تأمين الكثير من المعامل والشركات المواصلات لموظفيها أو اعتماد نظام المناوبات لتقليل أيام الدوام بالتالي تقليص أجور المواصلات،  ما دفع الكثيرين للاستقالة والبحث عن عمل خاص حر يؤمن كفاف عيشهم.

خيار الهجرة

وأكد وسوف أن الهجرة أصبحت أيضاً خياراً للكثير من الشباب بمختلف فئاتهم والتي ازدادت حدّتها بشكل واضح هذا العام باتجاه مختلف دول العالم، ومع ذلك ورغم انخفاض الرواتب لا زال البعض يُقبل على الوظائف لأن الظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب ضيّقت الخناق نظراً لغلاء الأسعار الذي طال كل السلع، فصحيح أن الرواتب لا تُسمن لكنها تغني من الجوع، لافتاً إلى أن فرصة الظفر بتلك الوظائف ستكون في حصتها الكبرى للإناث، خاصة وأن نحو الـ60% من الموظفين في الدولة هم من الإناث، إضافة إلى أن الفتاة تلجأ للعمل الحكومي لعدة أسباب أهمها حالة الاستقرار التي تنشدها المرأة بطبيعتها، كذلك فإن الراتب الحكومي يكفيها في إطار المسؤوليات الاقتصادية الملقاة على عاتقها من قبل المجتمع، فالمسؤولية الاقتصادية تجاه الفتاة محدودة والرجل هو من يحمل تلك المسؤوليات.

معلومة

قبل الحرب كانت سورية تحتاج لأكثر من 250 ألف فرصة عمل في العام، وبحسب الأرقام كان عدد المحظوظين منهم بالحصول على “وظيفة” بالقطاعين العام والخاص لا يتجاوز الـ75 ألفاً، واليوم في ظل انكماش فرص العمل زاد عدد طالبي العمل مع زيادة نسبة البطالة، ودائماً يبقى الأمل بإصلاح نظام الوظيفة والأجور، ويبقى الأهم باستثمار الموارد البشرية الشابة ووضعها بالأماكن المناسبة لها.

ميس بركات