ثقافةصحيفة البعث

يوريديس.. حب ومأساة على خشبتين

عندما التفت أورفيوس نحو يوريديس في أوبرا “يوريديس” لماثيو أوكوين وسارة روهل، التي كان آخر عرض لها في دار متروبوليتان للأوبرا الشهر الماضي، هزّت شهقات الجمهور المسرح الكبير. وشابهت هذه الانفعالات الحالة التي عاشها الجمهور في نهاية أغنية “وتغلغل الشك” من المسرحية الغنائية “هاديس تاون”.

تعود الأسطورة إلى أكثر من ألفي عام، وفيها يتزوج الموسيقار الكبير أورفيوس من يوريديس، التي ماتت بعد أن لدغها ثعبان يوم زفافهما، فيهبط إلى العالم السفلي، حيث يقدم له إله الموتى هاديس فرصة حب أخرى، ويؤكد له أن بإمكانه المغادرة بصحبة يوريديس بشرط أن يسير إلى الأمام دون يستدير أبداً، لكن أورفيوس يلتفت نحو يوريديس، فتصيبها لعنة هاديس إلى الأبد.

وعلى الرغم من أنها قصة قديمة وقصيرة، لا تزال حكاية أورفيوس ويوريديس تُروى وتُقتبس بصورة متكررة، مثل قصة روميو وجولييت المشهورة تماماً، ففي عام 1922 مثلاً، استخدم الشاعر النمساوي راينر ريلكه هذه القصة المأساوية كمنصة انطلاق لمجموعته الشعرية “إلى أورفيوس” المكونة من خمس وخمسين قصيدة، وحذا حذوه عدد لا يُحصى من الشعراء الآخرين، حيث عدل العديد منهم على الأسطورة لإعطاء زوجته الميتة الحزينة صوتاً.

ولدينا سارة روهل نفسها، التي أبدعت أسطورة في مسرحيتها “يوريديس” في عام 2003، والتي اعتمدتها في نصوص الأوبرا آنفة الذكر.

لا تكشف التعديلات الحديثة عن خيال مبتكريها فحسب، بل تعكس آراء جندرية تلامس صميم طريقة تصوير الرجال والنساء في الأساطير، ومن لديه السيطرة، وأي القصص التي تحظى بتقدير أكبر.

ولْنعترف، كان أورفيوس نجم الأسطورة دوماً، أما يوريديس فهي ببساطة العروس الشابة، لا خلفية لها ولا مستقبل، وتعمل عمل مأساة لأورفيوس وحسب، لكن غنائية “هاديس تاون” وأوبرا “يوريديس” يعيدان بناء هذا الدور البطولي، ولا يزال أورفيوس في كليهما موسيقاراً عبقرياً، لكن فنه يشغله عن كل شيء، حتى عن عشقه ليوريديس، ويمسى موتها مجرد حظ سيئ، لكن كلا الاقتباسين يرسم خطاً سببياً من تعامل أورفيوس مع موت يوريديس.

وبحسب ما يوحي الإصداران، ربما كان خليلها أورفيوس الموسيقار المتكاسل مولعاً بنجاحه الباهر التالي، إلى حدّ أنه أهمل الحب الذي ألهم أفضل أعماله. لكن يوريديس لا تهبط إلى العالم السفلي ببساطة؛ بل يغريها عرض لشيء تريده.

وفي أوبرا “يوريديس”، تشرد العروس الجديدة عن حفل زفافها، فتشعر بالملل وتفتقد والدها المتوفى، الذي كان يحاول سراً أن يراسل ابنته الحبيبة من العالم السفلي، وهنا يأتي هاديس كمحتال دنيء ليتلاعب بحزنها ويغريها بأحد رسائل والدها.

أما في غنائية “هاديس تاون” للأمريكية أنايس ميتشل، فنجد الإغواء بشقين، مالي وجنسي، ونرى أورفيوس ويوريديس محاصرين في عالم أُخرَوي، حيث يغري هاديس يوريديس بوعود بالأمان والراحة، بينما يعمل على ضعضعة علاقتها بأورفيوس، ويسخر من كونه فناناً يعاني الجوع، ونرى هاديس مكشراً عن أنيابه ليفترس يوريديس، مستغلاً مشاعر الوحدة والإهمال في علاقتها.

ومن الواضح في كلا الإصدارين أن يوريديس ممسكة بزمام الأمور، بدل أن تقابل نوائب القدر بسلبية، لكن النتيجة في كلتا الحالتين لا تزال مأساوية.

وتفقد بطلتنا إحساسها بذاتها، سواء من خلال تحول تدريجي، كما في “هاديس تاون”، أم عبر تغيير مفاجئ، كما في “يوريديس”، إذ تنضم يوريديس في “هاديس تاون” إلى جيش الأرواح الخاضع لهاديس، ناسية هويتها كما أرواح الأموات من حولها، أما نظيرتها في أوبرا “يوريديس”، فتنسى أيضاً أورفيوس واسمها وكيفية القراءة، وتلتقي بوالدها المتوفى وتعجز على التعرف عليه في البداية.

وكما رأينا، تنتهي الأسطورة بالموت، والطريق إلى الموت في الأوبرا أسهل منه في المسرحية الغنائية، ذلك لأنه من الصعب نجاح مسرحية غنائية بنهاية كئيبة، مع ذلك، تنحل عقدة مسرحية “هاديس تاون” بشجاعة بتلك الطريقة، معلنة أن قصة أورفيوس ويوريديس هي “أغنية قديمة” و”أغنية حزينة، لكننا نغنيها على أي حال”.

وينتهي المطاف بكل من يوريديس وأبيها وأورفيوس في العالم السفلي معاً، دون أن يجدوا السلام. وبعد أن فقد والد يوريديس الأمل في لمّ شمله مع ابنته بعد وصول زوجها لإنقاذها، يغطس مرة أخرى في نهر الكراهية (نهر ستيكس)، ما تسبّب في وفاته نهائياً، ثم تتبعه ابنته ليصيرا طيّ النسيان، لذا فإن المأساة الكبرى تدور حول الطرق التي مزق بها الموت هذه العلاقات.

وما يثير الإعجاب في الإصدارين هي الطريقة التي قدما بها قوة يوريديس بصورة أكبر، فمع أن “هاديس تاون” تلتزم بالحبكة الكلاسيكية، مع بعض الانعطافات والزخارف، نجدها تصور يوريديس بأنها الأكثر إثارة بين الزوجين، أما “يوريديس” فتمنح بطلتها سلطة اتخاذ القرار: إما العودة مع زوجها، وإما البقاء في العالم السفلي مع والدها، ولكن على الرغم من هذا التعديل المثير للفضول، لا تزال الأوبرا تعرف يوريديس من خلال علاقتها بالرجال.

إعداد: علاء العطار