ثقافةصحيفة البعث

هجرة الفنانين السوريين إلى مصر

قامت الحياة الموسيقية في سورية، في أواخر القرن الماضي، على الموشح، الذي بلغ الأوج على يد الفنانين الحلبيين، ووجدت الأغنية ديمومتها عند الفنانين الشعبيين الذين حافظوا عليها ونشروها، حتى أضحت من تراث الشعب الفولكلوري. ونقل الفنانون الدور المصري إلى ديار الشام، بالإضافة إلى المدائح النبوية، كل ذلك من أجل الارتقاء بهذا الفن الجميل، الذي يريحهم من عناء العمل. وإلى جانب فن الغناء الكلاسيكي، نقل العاملون في الموسيقا والغناء فن الدور المصري إلى ديار الشام ليتبوأ المكانة اللائقة به إلى جانب فنون الغناء الأخرى، فأصبحت لديهم الفنون التالية: المواليا – الأهزوجة – القصيدة – الموشحة. فإذا عرفنا أن المجتمع كان ينظر إلى هؤلاء نظرة دونية، وأنهم من أحطّ الناس، وكانت شهادتهم غير مقبولة في المحاكم، أدركنا سر المعاناة التي كان يعانيها هؤلاء.

وإلى جانب الحياة الفنية الدنيوية، قامت حياة أخرى فنية دينية قوامها الفرق المتصوفة التي وقفت حلقات أذكارها على المدائح النبوية والتغني بالذات الإلهية، ولم تستخدم سوى آلات الإيقاع. وفنانو وشيوخ هذه الطرق من المنشدين كانوا في غالبيتهم من أتباع الطريقة الشاذلية والمولوية.

في هذا الجو المتزمت برز أحمد أبو خليل القباني 1833 – 1903 كظاهرة فريدة في الغناء، غير أن مجتمع مدينة دمشق دفعه إلى الهجرة مع فرقته إلى مصر، ليكرس المسرح الغنائي، ويدفع المسرح المصري خطوات إلى الأمام، وإذا كان الفنان القباني وجد ذاته في الرحيل إلى مصر، فقد سبقه إليها الفنان شاكر الحلبي الذي هاجر إليها في عام 1840 وقام بتلقين أصول الموشحات وفنونها وضروبها لعدد من الفنانين المصريين.

غير أن أهمية هجرة هؤلاء تكمن في أنها دلّت الفنانين السوريين الذين تعرضوا للاضطهاد الاجتماعي على الطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه، وكان يوسف الخياط وسليمان قرداحي من أوائل المهاجرين إلى مصر، وقد عملا في المحترف المسرحي، كذلك هاجر عدد كبير من الموسيقيين، وهم عمر الجراح الذي كان يجيد العزف على آلتي العود والقانون، وحسن الساعاتي عازف القانون الشهير، وإلى جانبهما هاجر الفنان عمر القصير، وكان أبرزهم عبد الله أبو حرب أمهر ضارب إيقاع، ومن راقصي السماح المبدعين، وعبد الرزاق العش وحسن شاشيط الذي غنى أمام الخديوي توفيق، وجميل الإدلبي، وعازف العود جميل جمعة الذي ترأس فرقة موسيقية، والقائمة تكاد لا تنتهي، لأن المجتمع في سورية الصارم بتقاليده استطاع وأد أخبارهم.

أنطوان يوسف الشوا الموسيقي وجد عنتاً مشابهاً للذي لقيه القباني، وانصرف إلى تطوير الفرقة الموسيقية، فقد قام، في عام 1865، بخطوة جريئة، عندما حاول استخدام آلة الكمان الغربية في الفرقة الموسيقية، لكن الإقبال ظل محدوداً، فقرر الهجرة إلى مصر مع ولديه، ليحقق حلمه بهذه الآلة.

شجّعت هجرة هؤلاء الفنانين إلى مصر كثيراً من الفنانين، ومن هؤلاء الشيخ علي الدرويش الذي هاجر إلى مصر بدعوة من الفنان مصطفى رضا، فأغنى الحياة الموسيقية فيها، باطلاعه الواسع وبعلمه وتراثه الذي يعرف ويحفظ.

مع مطلع القرن الماضي، شهدت مصر دفعة كبيرة من الفنانين، ومنهم كميل شامبير الذي حاول أن يفرض آلة البيانو على الحياة الموسيقية، حتى إذا فشل هاجر إلى مصر، وكذلك هاجر الفنان توفيق الصباغ وسامي الشوا الذي عاد إلى حلب لينهي أعماله ويستقر في القاهرة، وجميل عويس عازف الكمان المتميز الذي لعب دوراً كبيراً في حياة مصر الفنية، وتدين له الموسيقا العربية بشكل كبير في تدوينه الموسيقي لكل أعمال سيد درويش، وكان يمكن لها أن تضيع لولا قيامه بهذا العمل.

استمرت هجرة الفنانين السوريين والمغنيات، وذلك في أعقاب الحرب الأولى، وكان الدافع من ذلك هو السعي وراء الشهرة والثراء، وكان من أشهرهن نادرة الشامية وأختها ناجية، وقد تمكنت الأولى من مزاحمة منيرة المهدية على عرشها، ونافست أم كلثوم الشابة قبل أن يطويها الزمان.

أما المطربة علياء المنذر فلم تكن في الأصل مطربة، فقد هربت من السويداء، مع أولادها، إلى لبنان، وبعد ذلك توجهت إلى مصر، واتصلت بأهل الفن، فقدموا كل مساعدة لها، ثم تعرفت على محمد القصبجي وزكريا أحمد والشيخ محمود صبح الذين لحنوا لها عدداً من الألحان قامت بتسجيلها على أسطوانات شركة كولومبيا، وغدا بيتها، بفضل كرمها وروايتها للشعر وإتقانها الحديث والمسامرة، محجاً للفنانين والأدباء، ثم ابتعدت عن ميدان الفن، وراحت تربي أولادها تربية فنية، وخاصة فريد وآمال، ليسفر ذلك عن تبوأ كلّ من فريد الأطرش وآمال التي سُمّيت بعد ذلك بأسمهان لمركزي الصدارة بين المطربين والمطربات.

إن الهجرة لعبت دوراً كبيراً في مصر التي شهدت نهضة فنية واكبت الحركة الثقافية والفكرية، وحركات التحرر والاضطرابات والثورات التي شملت كافة أرجاء الوطن العربي، بينما مصر كانت تسير في طريق الانفتاح على كل ما هو غربي متحضر، وكانت البلاد العربية تسير في طريق الجهل والتخلف اللذين وقفا حائلاً دون تقدم مسيرة الفن والثقافة والإبداع حتى منتصف القرن العشرين.

فيصل خرتش