دراساتصحيفة البعث

هل تكون أفريقيا وجهة الصراعات القادمة؟

ريا خوري

تعتبر الطاقة والثروات المعدنية، الظاهر منها والكامن في أعماق الأرض، العصب الرئيسي لحركة الصناعة العالمية، ومعظم الدول تجاهد للحصول عليها، والدولة التي لا تتمكّن من الوصول إلى تلك الطاقة سرعان ما توهن وتضعف. فقد ذهبت بعض أهم التحليلات السياسية الاستراتيجية حول أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991، إلى عدم قدرته على الوصول والتحكّم بموارد الطاقة في العالم، ولم يكن ينتج ما تحتويه أرضه من ثروات.

انطلاقاً من اعتبار موارد الطاقة والثروات المعدنية هي الأساس في النفوذ الدولي، خصوصاً مع ازدياد الاستهلاك العالمي للطاقة، فقد تمكّنت الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة من وضع يدها بشكل مباشر، أو غير مباشر، على أهم منابع الطاقة في العالم، وفرضت سيطرتها وهيمنتها بالقوة الدبلوماسية أحياناً والعسكرية أحياناً كثيرة، ما مكّنها فعلياً من تحقيق فجوة كبيرة جداً بينها وبين منافسها الاتحاد السوفييتي السابق.

الهيمنة على منابع الطاقة من نفط وغاز، والثروات المعدنية، هي العصب الرئيسي لحركة الصناعة العالمية واستمرار تطور الاقتصاد، ولم تقلّ أهمية هذا المبدأ مع التطورات المتسارعة التي فرضتها تطورات العالم الرقمي بعد ثورتي التقانة والشرائح الذكية والاتصالات، بل زادت أهمية هذا المبدأ نتيجة أسباب عدة، منها زيادة عدد سكان العالم بشكلٍ لافت من جهة، حيث ازداد عدد سكان العالم خلال العقود الأربعة الماضية أكثر من ملياري إنسان، ومن جهة ثانية، فإن الصناعات الرقمية والشرائح الإلكترونية الذكية تحتاج إلى كميات كبيرة من المعادن، مثل البلاتين، والكوبالت، والإنديوم، والليثيوم، وأصبح من الضروري أن تؤمّن الشركات الكبرى والكارتيلات الضخمة، في عالم الصناعات الرقمية، احتياجاتها الراهنة والمستقبلية من هذه المعادن الضرورية، بما يمنحها القدرة والأفضلية على تطوير نفسها بشكلٍ جيد وقويّ.

وتشكّل القارة الأفريقية أحد أهم احتياطات الطاقة من نفط وغاز ومعادن بمختلف أنواعها في العالم، حيث تحتوي على عشرة بالمائة من النفط العالمي، وثمانية بالمائة من احتياطات الغاز، والأهم من ذلك أنها أهم مصدر للمعادن الأساسية التي تدخل في صناعة الأجهزة الرقمية والشرائح الإلكترونية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنتج جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها نحو خمسين بالمائة من معدن الكوبالت، وهو معدن مهمّ وضروري ولا غنى عنه في صناعة الأجهزة الرقمية، وانطلاقاً من هذه الأهمية الاستراتيجية المستقبلية للقارة الأفريقية بالنسبة لموارد الطاقة والمعادن، فقد زادت حدّة التنافس بين الدول الكبرى على القارة الأفريقية، حتى أصبحت مرشَّحة لتكون ساحة صراع أساسية في المدى المتوسط بين القوى والشركات الكبرى والكارتيلات الضخمة.

جمهورية الصين تدرك هذه الحقيقة، لذلك قامت بتوسيع قاعدة اهتمامها ونشاطها في العديد من الدول الأفريقية، وفي عام 2019، قال تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية آنذاك إنه منذ فترة زمنية طويلة، يطرق المستثمرون الاقتصاديون الباب، ويفتح الأفارقة، ويكون الصينيون هم الأشخاص الوحيدون الذي يقفون هناك، وحقيقة الأمر أن الصين استخدمت عدداً من الآليات لتعزيز نفوذها وقوتها، فقد قدّمت الكثير من القروض طويلة الأجل للحكومات الأفريقية، وخاصة تلك الدول التي تعاني من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة، كما استثمرت بشكل مباشر من خلال “مبادرة الحزام والطريق”، وزادت من حجم تبادلها التجاري مع الأسواق بشكل غير مسبوق، والذي وصل إلى أكثر من مئتي مليار دولار في عام 2020.

وفي الأعوام الأخيرة، أظهرت دول الاتحاد الأوروبي، عبر القاطرة الاقتصادية الألمانية، اهتماماً سياسياً خاصاً بالقارة الأفريقية، فقد قامت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في عامي 2019 و2020 بزيارة عدد من الدول الأفريقية، في إطار سياسي اقتصادي استراتيجي، يأخذ في الحسبان ضرورة التواجد في أفريقيا. ومن هذا المنطلق، قامت ألمانيا بالتجديد لبقاء قاعدتيها العسكريتين في جمهورية مالي والقرن الأفريقي، كما تمتلك تواجداً لقواتها العسكرية في الكاميرون وجيبوتي ونيجيريا، وعلى المستوى الاقتصادي، تسارعت خلال الأعوام القليلة الماضية وتيرة استثمار الشركات الألمانية في أفريقيا، وقد وصل عدد الشركات الألمانية في عموم القارة الأفريقية إلى أكثر من ألف شركة، تتقدمها شركات الصناعات التكنولوجية والتقنية المتطورة الكبرى.

إنَّ من يطلع على بنية الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والمعيشية في دول القارة الأفريقية يدرك حجم الأزمات الكبيرة الموجودة، وفي بعض الأحيان غياب الاستقرار السياسي، أو تنامي وجود التنظيمات الإرهابية وتشعباتها واستطالاتها، وهذه الأوضاع نفسها شكّلت فرصة سانحة للدول الكبرى، لكن من خلال استراتيجيات عدة، فقد عمدت الصين إلى تقديم قروض مالية للحكومات الأفريقية، في وقت استخدمت ألمانيا بالذات وأوروبا بشكلٍ عام استراتيجيات تقوم على الشراكة في مكافحة الإرهاب، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وتوفير أكبر فرص عمل للشباب، وكلتا الاستراتيجيتين، وإن تباينتا شكلياً، إلّا أنهما من الناحية العملية والمنطقية، تعملان لتأمين أكبر نفوذ وهيمنة ممكنة.

في الختام، يفرض التساؤل التالي نفسه: هل سيكون العقد الحالي هو عقد تنامي الصراعات في القارة الأفريقية؟ حتى الآن لا يبدو هذا الخيار مستبعداً، فحيث توجد الموارد الاقتصادية من نفط وغاز ومعادن ضرورية تتأجج الصراعات، وأيضاً تتصارع الشركات ورؤوس الأموال المتدفقة من كل حدب وصوب.