دراساتصحيفة البعث

الأوروبيون سيدفعون ثمن مضاربات عصابات الغاز في واشنطن

سمر سامي السمارة

أفضى ارتفاع أسعار الغاز مؤخراً في أوروبا إلى عدم الاستقرار المالي والاجتماعي والسياسي في العالم القديم. ويرى محلّلون اقتصاديون أن أسباباً متعدّدة تكمن وراء هذا الارتفاع، منها سياسات المضاربين الأوروبيين المحليين، الذين أرادوا الثراء السريع عندما تمكّن المسؤولون الأوروبيون -نتيجة لسياساتهم السافرة المعادية للروس- من إبقاء شركة “غازبروم” وغازها الرخيص خارج سوق الاتحاد الأوروبي الداخلي، حيث يبيع هؤلاء المضاربون بزيادة في السعر تتراوح بين 300% و500% من الغاز الذي ضخته “غازبروم” إلى مستودعاتهم في الصيف، وبذلك يجنون أرباحاً فائقة من المستهلك الأوروبي، ويمنعون دخول الغاز الروسي إلى الأسواق الأوربية إلى أن يبيعوا هذه الاحتياطيات!.

إلى جانب المضاربين الأوروبيين، أصبحت الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة فاحشة الثراء، حيث استفادت إلى حدّ كبير من الأسعار الباهظة. وبهدف صرف انتباه الرأي العام عما يحدث فعلياً، يحاول مسؤولو إدارة جو بايدن اتهام موسكو زوراً بزيادة أسعار الغاز، بينما لا يفعلون شيئاً لخفض تلك الأسعار، لأن انخفاضها غير مربح على الإطلاق لواشنطن. وهذا ما تؤكده البيانات الواردة من دائرة الجمارك الفيدرالية الروسية ومكتب الولايات المتحدة للتحليل الاقتصادي، والتي تظهر بوضوح تقارير عن صادرات الولايات المتحدة من الغاز إلى أوروبا، وتثبت أن الولايات المتحدة تجني أموالاً أكثر من روسيا من ارتفاع أسعار الغاز في الأشهر الأخيرة. فقد بلغت قيمة الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال الذي صدّرته روسيا في الفترة الممتدة، بين كانون الثاني وآب عام 2021، ما يعادل 33.197 مليار دولار تقريباً، مقابل 42.9 مليار دولار من الغاز الطبيعي المسال الذي صدّرته الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها!.

من الجدير بالذكر، أن معظم إمدادات الغاز الأمريكية إلى أوروبا تندرجُ ضمن عقود فورية بأسعار صرف وشراء سريع ودفع وتسليم في تاريخ معيّن، حيث تصل الأسعار في أوروبا إلى أعلى مستويات. ونتيجة لذلك، يحقق التّجار الذين يزودون أوروبا بالغاز الأمريكي أرباحاً هائلة.

ففي كانون الثاني الماضي، لم يستفد المضاربون من إمداد أوروبا بالغاز المنتج في الولايات المتحدة فحسب، لكنهم قاموا أيضاً بتحويل كميات من الشرق الأوسط وآسيا نتيجة انخفاض أسعار الغاز في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. بينما تنفذ شركة “غازبروم” التزاماتها التعاقدية بشكل رئيسي بموجب عقود طويلة الأجل، أي بأسعار أقلّ بكثير من تلك الموجودة في سوق الأوراق المالية. ويبدو أنه في حال أدّت إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى انخفاض أسعار الغاز في أوروبا، فسيصبح هذا السوق تلقائياً غير مهتم بالمصدّرين الأمريكيين، وسيتعيّن على الأوروبيين أنفسهم العودة إلى شراء الغاز من المورّدين التقليديين. لذا يتمّ الإبقاء على حالة الذعر المصطنعة في أوروبا الآن من خلال الادّعاء بأن روسيا قد تقطع إمدادات الغاز بسبب الموقف المتصاعد حول أوكرانيا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن كافة إمدادات الغاز الطبيعي المسال المتأتية من الولايات المتحدة، لم تنجح أبداً في خفض أسعار تبادل الغاز في أوروبا، في حين أن أي مفاوضات ناجحة بين روسيا والولايات المتحدة أو القادة الأوروبيين تخفض الأسعار بمقدار 100- 150 دولاراً.

من المعروف، أن سوق الغاز الأوروبي، وهو الفناء الخلفي لسوق الغاز الطبيعي المسال العالمي، يعتمد على الظروف السائدة في بلدان آسيا والمحيط الهادئ، لأنه السوق الأكبر فعلياً. وبمجرد أن تبدأ الأسعار في الانخفاض في آسيا، يتبعها انخفاض في أوروبا، والعكس صحيح. ففي عام 2021، ذهبت نصف صادرات الغاز الأمريكية إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وربعها فقط إلى أوروبا. ومع ذلك، فإن تحويل تدفقات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى أوروبا قد يؤدي قريباً إلى ارتفاع أسعار الغاز في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومع عودة ناقلات الغاز الأمريكية إلى آسيا، وتحطيم الأسعار الأوروبية الأرقام القياسية مرة أخرى لمصلحة المضاربين الأوروبيين والتّجار الأمريكيين أنفسهم، سيكون من سوء حظ الأوروبيين أنهم سيدفعون ثمن سياسة عصابات الغاز في واشنطن.

لطالما كانت أوروبا، باستهلاكها الكبير للغاز وامتلاكها للعشرات من محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال غير المستغلة، ذات أهمية كبيرة للشركات الأمريكية التي أنفقت 60 مليار دولار تقريباً على البنية التحتية للتصدير. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينكر أن الغاز الطبيعي المسال مكلف مقارنة بغاز خط الأنابيب من روسيا. ولهذا السبب كانت أوروبا، حتى وقت قريب، متحمّسة لشراء الغاز القادم من روسيا بسعر رخيص، وللسبب نفسه أيضاً ظلّ 75- 80٪ من سعة محطات الغاز الطبيعي المسال في أوروبا فارغة. على أي حال، فإن المعيار الرئيسي لتقييم آفاق الغاز الطبيعي المسال الأمريكي كمنافس لشركة “غازبروم” في أوروبا هو السعر.

ومع ذلك، شهد سوق الغاز في الأسابيع الأخيرة الماضية تدهوراً كبيراً، وذلك عقب استلام روسيا في أواخر شباط الماضي تأكيداً مكتوباً لرفض الناتو والولايات المتحدة الدخول في حوار مع موسكو بشأن الضمانات الأمنية. جاء ذلك على خلفية رفض الغرب في السابق طمأنة السلطات النازية الجديدة في كييف، والتي وصلت إلى السلطة في عام 2014 من خلال الانقلاب الذي شجّعت عليه واشنطن، حيث اتبعت سلطات كييف لمدة 8 سنوات، وبتحريض من واشنطن ودعم ضمني من الغرب، سياسة الإبادة الجماعية في دونباس لمن يتحدثون الروسية، وسياسة الرهاب الروسي. بالإضافة إلى ذلك، كثفت سلطات كييف مؤخراً أنشطة النازيين الجدد وزادت وتيرة التهديدات بقدرات الأسلحة النووية المحتملة في أوكرانيا، على أمل استخدامها، بعد أن طوّرتها بالفعل لخططها بعيدة المدى لمهاجمة روسيا.

في ظلّ هذه الظروف، ومع غياب استجابة غربية مناسبة للتأثير على أنشطة سلطات كييف، اضطرت موسكو في أواخر شباط الماضي إلى شنّ عملية خاصة في أوكرانيا لنزع سلاحها، ولأسباب تتعلق بالحفاظ على أمنها. ورداً على ذلك، شنّت واشنطن وحلفاؤها الغربيون حرباً إعلامية ضد روسيا وفرضوا عقوبات شديدة عليها. وفي محاولة لإرضاء المؤسّسة السياسية الأمريكية المعادية لروسيا، رفضت بروكسل التصديق على مشروع “نورد ستريم 2” الذي تمّ بناؤه بالفعل، وكان من الممكن أن يخفّف بشكل كبير من الوضع في سوق الغاز الأوروبية.

ومع ذلك، تستمر خطوط الأنابيب الروسية الأخرى في العمل وضخ الغاز إلى أوروبا، ويستمر الغاز الروسي في التدفق عبر نظام نقل الغاز الأوكراني دون انقطاع، على الرغم من حرب المعلومات المضلّلة التي أطلقتها واشنطن ضد روسيا.

جدير بالملاحظة، أن إمدادات الغاز إلى أوروبا لا تتدفق عبر خط الأنابيب الأوكراني فحسب، بل زاد الأوروبيون من طلباتهم للإمداد وبدأت شركة “غازبروم” بضخ 109 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً عبر الأنبوب الأوكراني بدلاً من 50 مليون متر مكعب يومياً، كما كان قبل بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

ومع ذلك، نظراً لاستنزاف مرافق التخزين الأوروبية تحت الأرض بسبب الطقس الشتوي، لم يتبقَ غاز تقريباً، ما أجبر الاتحاد الأوروبي على التحول إلى الواردات الحالية، والتي تعرضها الولايات المتحدة “بشكل ملزم”، بعد أن أسهمت باندلاع الأزمة في أوكرانيا، وتسبّبت برفع سعر الغاز في أوروبا.

أما بالنسبة للأوروبيين، فهم يحاولون حتى الآن إخراج إمدادات النفط والغاز الروسية من شريحة العقوبات، على الرغم من أن السياسيين الأوروبيين الأفراد، مثل بوريل، الذين “يأكلون من فتات واشنطن”، بدأوا يتحدثون عن فرض عقوبات إضافية ضد روسيا في قطاع الغاز أيضاً، لإرضاء سياسة البيت الأبيض. في الوقت نفسه، يعرف هؤلاء المسؤولون الأوروبيون جيداً أن روسيا لن تستخدم غازها كأداة ضد أوروبا.

في الحقيقة، لا بديل للاتحاد الأوروبي عن ذلك، وقد تحدث العديد من مصدّري الغاز في العالم عن ذلك بالفعل. ولن يزداد الوضع في أوروبا سوءاً بالنسبة للسكان إلا إذا استمرت السياسة المعادية لروسيا التي ينتهجها المسؤولون الأوروبيون الحاليون، ما يهدّد ليس فقط بإفقار السكان، بل وأيضاً بإفلاس العديد من الشركات الأوروبية وحتى قطاعات كاملة من الاقتصاد.