دراساتصحيفة البعث

جذور أزمة أوكرانيا في الجغرافيا السياسية

ترجمة: هناء شروف

استحوذ الصراع الروسي الأوكراني على اهتمام وسائل الإعلام الدولية والسياسيين والخبراء على حدّ سواء، ولكن لتقييم الصراع بشكل صحيح يحتاج المرء إلى تحديد الأسباب الأساسية لهذا الصراع.

بعد نهاية الحرب الباردة، عام 1991، دخل العالم حقبة “الهيمنة الأمريكية المطلقة” والتي أطلق عليها العديد من الخبراء “لحظة أحادية القطب”. وحينها حدّدت الولايات المتحدة قواعد العلاقات الدولية، وكان لديها ما يكفي من الموارد والقوة لإجبار كل دولة على الالتزام بها. كان الدافع الرئيسي للهيمنة الأمريكية هو الترويج للديمقراطية الليبرالية في جميع أنحاء العالم.

ومع ذلك، كان للسياسة أجندة جيوسياسية واضحة، فمن وجهة نظر الولايات المتحدة كان انتشار الديمقراطية الليبرالية يعني نشر نفوذ الولايات المتحدة. وبما أن الولايات المتحدة كانت زعيمة “العالم الحر” بلا منازع فإنها ستتربع تلقائياً على قمة الكرة الأرضية إذا أصبحت جميع الدول جزءاً من ذلك العالم الحر.

كما كانت الولايات المتحدة دائماً فوق القواعد وتخرقها كلما رأت ذلك ضرورياً. ولعلّ القصف الوحشي لصربيا عام 1999، وغزو العراق واحتلاله عام 2003، مثالان على الجرأة التي انتهكت بها الولايات المتحدة القوانين والقواعد الدولية، في الوقت الذي تطالب فيه الدول الأخرى بالالتزام بها.

كانت الولايات المتحدة ناجحة بشكل خاص في إستراتيجيتها لتعزيز الديمقراطية في أوروبا الشرقية من خلال توسيع الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي. لكن بحلول عام 2007، أصبحت جميع الدول الاشتراكية السابقة وجمهوريات البلطيق الثلاث في الاتحاد السوفييتي السابق جزءاً من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

ومع ذلك، لم تنجح الولايات المتحدة في نشر سياساتها في روسيا بعد فوضى التسعينيات، عندما عانت روسيا من خسائر اقتصادية وديموغرافية كبيرة، وكانت تحكمها بشكل أساسي دائرة صغيرة من أباطرة البترول والبنوك الذين لديهم صلات قوية بالمؤسّسات المالية الغربية، حتى تولى فلاديمير بوتين منصب الرئيس الروسي في أواخر عام 1999.

وهنا بدأت روسيا استعادة مكانتها كقوة عالمية كبرى وسط الاضطرابات التي كانت تسبّبها السياسة الخارجية للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، وأصبحت أوكرانيا النقطة المحورية في المواجهة بين روسيا والغرب، نظراً لموقعها الاستراتيجي ومساحتها الكبيرة وإمكاناتها الاقتصادية الكبيرة. وأصبحت أوكرانيا أيضاً محور تركيز الولايات المتحدة التي سعت إلى تحويل البلاد إلى القاعدة الأمامية للغرب في مواجهتها مع روسيا الحازمة.

وقد أدى تفشي الفساد وفشل مؤسسات الدولة في تقديم الخدمات الأساسية للشعب إلى استياء عام وغضب ضد القادة الأوكرانيين. وكانت هذه المشاعر في صميم ثورتين أوكرانيتين، في عامي 2004 و2014. وعكست الثورات نمطاً جيوسياسياً للغرب، وهو نقل أوكرانيا بعيداً عن روسيا.

ومع ذلك، لم تنهِ ثورة 2004 ولا ثورة 2014 الفساد. وبدلاً من ذلك -وبحسب بعض الروايات- تسبّبت بزيادة الفساد، وبمجرد تنصيب قيادة جديدة في شباط 2014 بعد أن أطاحت القوات الموالية للغرب بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، بدأت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في منطقة دونباس الشرقية، وخاصة في دونيتسك ولوغانسك، بينما صوّت سكان القرم للانضمام إلى روسيا.

نتيجة لهذه التطورات اشتدت المواجهة بين روسيا وأوكرانيا مع دعم الغرب للأخيرة علناً، ولنزع فتيل التوترات وقعت روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا اتفاقية “مينسك” في أيلول 2014 وشباط 2015 والتي بموجبها ستمنح أوكرانيا وضعاً خاصاً لدونيتسك ولوغانسك.

ومع ذلك، رفض الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشنكو، وكذلك الرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي، تنفيذ اتفاقية “مينسك” زاعمين أن تنفيذها من شأنه أن يضرّ بالمصالح الوطنية الحيوية للبلاد، وأن كييف وقعت الاتفاقية تحت ضغط موسكو.

وحتى مع استمرار المفاوضات بشأن تنفيذ بنود “مينسك”، كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تدعمان أوكرانيا بنشاط لإعادة بناء جيشها، وإرسال الأسلحة والمدربين لتدريب الجنود الأوكرانيين، مع التأكيد على أن أوكرانيا ستصبح عضواً في الناتو.

من ناحية أخرى، أصرّت موسكو على أن أوكرانيا تحت نفوذ الولايات المتحدة، وخاصة كعضو في الناتو، ستشكل تهديداً كبيراً لمصالح روسيا الوطنية الأساسية. وفي منتصف كانون الأول 2021 أرسلت روسيا مسودة اتفاقية إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تطالب الحلف الأطلسي بعدم التوسع شرقاً أو نشر أنظمة أسلحة في المناطق الواقعة على طول حدود روسيا. رفضت الولايات المتحدة والناتو الطلب، وبعد ذلك شنّت روسيا عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا في 24 شباط الماضي.

منذ منتصف عام 2010، كانت بعض الدول الأوروبية وخاصة فرنسا تروّج لفكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي بشكل أساسي لتقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة من أجل الأمن الصعب والذي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال تعميق التعاون الأمني ​​مع روسيا. لكن بعد 24 شباط، احتشدت أوروبا خلف الولايات المتحدة لفرض عقوبات على روسيا، هذا الضغط الاقتصادي غير المسبوق الذي مارسته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وحلفاؤهما على روسيا، والبيانات التي أصدروها، تظهر أن الهدف الاستراتيجي للغرب هو تدمير الاقتصاد الروسي ورفع المواجهة بين الغرب وروسيا إلى مستوى جديد.

ولكن لا يمكن لأي دولة أن تعيش بدون اقتصاد، لذا فإن استراتيجية الغرب لتدمير الاقتصاد الروسي تعادل تقويض الدولة الروسية. لكن الهدف النهائي هو وجود حكومة موالية للغرب، في روسيا، من شأنها أن ترحب بمزيد من توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. والأهم من ذلك أن الحرب الاقتصادية التي يشنّها الغرب ضد روسيا هي دليل جيد للدول الأخرى لفهم كيف يسعى الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة إلى تدمير البلدان التي يعتبرها منافسة.