دراساتصحيفة البعث

ثنائية “مدريد الاستراتيجية” و”اندو باسفيك” الأميركية: “الاحتواء الصلب”.. للصين  

في قمة بروكسل 2021، طلب قادة حلف الأطلسيّ من الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ قيادة عملية تطوير “المفهوم الاستراتيجيّ” للحلف، والمفهوم عبارةٌ عن وثيقةٍ أساسيةٍ للحلف تحتل المرتبة الثانية بعد معاهدة واشنطن (4 نيسان 1949) التأسيسية، التي تُشكّل أساس منظمة حلف شمال الأطلسيّ، عادةّ تتم مراجعة المفهوم وتحديثه بانتظام، منذ نهاية الحرب الباردة، تقريباً كلّ 10 سنوات لمراعاة التغييرات في بيئة الأمن العالميّ والتأكد من استعداد الحلف للمستقبل، طبعاً شكّل تغير بنية النسق الدولي في العقد الماضيّ، وتصاعد المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والقوى التعديلية في النظام الدولي (روسيا والصين)، وبروز أحداثٍ ومتغيراتٍ كبرى كاستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم (2014) ولاحقاً الحرب الأوكرانية (2022)، وكذا الأمر طرح القادة الأوربيون مفهوم “الاستقلال الذاتيّ الاستراتيجيّ” (European Strategic Autonomy) عن الناتو، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست Brexit) (2016)، والانسحاب الأميركيّ الأحاديّ من أفغانستان (2020)، تحدياتٍ كبرى طرحت بإلحاحٍ مسألة تحديث المفهوم الاستراتيجيّ للحلف، والذي كان آخر تحديثٍ معتمدٍ له في قمة لشبونة عام 2010، لذلك اتخذ قادة حلف شمال الأطلسيّ في قمة بروكسل في حزيران 2021، قراراً بتطوير المفهوم الاستراتيجيّ التالي الذي سيتم اعتماده في قمة مدريد التي ستعقد بتاريخ 27 – 28 حزيران 2022، تحت عنوان “مفهوم مدريد الاستراتيجي” the Madrid Strategic Concept))، الذي سيعكس بحسب ستولتنبرغ، (البيئة الأمنية الجديدة، ويعيد تأكيد أسس الوحدة والتحالف العابر للأطلسيّ). طبعاً مفهوم مدريد الاستراتيجيّ هو البيئة الفكرية والسياسية والاستراتيجية لأجندة الناتو (2030)، إذ طلب قادة الناتو في كانون الأول من العام 2019، من الأمين العام ستولتنبرغ إجراء عملية تفكيرٍ استشرافيةٍ لتعزيز الحلف. وفي حزيران 2020، حدد ستولتنبرغ الأجندة المقترحة لعام 2030، والتي تمحورت حول التأكد من بقاء الناتو قويًا عسكريًا، ويصبح أقوى سياسيًا ويتبع نهجًا أكثر عالمية. وفي قمة بروكسل 2021، وافق قادة الحلف على أجندة 2030 الطموحة للناتو، والتي تضمنت قرارًا بتحديث المفهوم الاستراتيجيّ، الذي أُقر في لشبونة 2010 تحت عنوانٍ استراتيجيٍّ عريضٍ (الاشتباك النشط والدفاع الحديث)، وعلى الرغم أنّه من السابق لأوانه التأكد من مضامين “مفهوم مدريد الاستراتيجي”، يبدو أنّ جدول أعمال الناتو 2030 المذكور أعلاه، والإعلان الصادر عن مجلس شمال الأطلسي في بروكسل، يشير إلى الموضوعات الرئيسية التي ستتم معالجتها، ومن أبرزها: رابطة عبر المحيط الأطلسي، وتكيف الناتو مع حقبة يهيمن عليها التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى، تعزيز الردع ضد روسيا والتصدي لتحدي الصين، إضافةً إلى مراجعة أولويات الناتو (الأمن التعاوني وإدارة الأزمات)، توزيع العبء المالي بين الولايات المتحدة وأوروبا، المرونة، الابتكار التكنولوجي، العلاقة بين المناخ والأمن. ولعل المهمة الأساس في “مفهوم مدريد الاستراتيجي” هيّ إعادة صياغة العلاقات بين الناتو والاتحاد الأوروبي من أجل الدمج أو التوفيق بين  مفهوم “الاستقلال الذاتي الاستراتيجي الأوروبي”، مع المادة الخامسة في ميثاق واشنطن للحلف، كما سيتعين على مفهوم مدريد الاستراتيجيّ أن يوفق بين مخاوف الأوروبيين الأمنية على حدودهم الجيوسياسية، وبين تلك الخاصة بالولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع توزيع الأدوار والمسؤوليات لأنّ الاستجابة الأوربية لتحدي الصين قد تؤدي إلى تقوية الروابط عبر الأطلسيّ أو قد تسرع تفكيكها، لأنّ عملية احتواء الصين تختلف عن عملية ردع روسيا، سيما بعد اتفاقية الاستثمار التاريخية بين الصين والاتحاد الأوربي، 30 كانون أول 2020، والتي أتت كتتويجٍ لنهجٍ متطورٍ في علاقة الجانبين، فخلال عام 2020، نجحت الصين في أن تصبح الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت الشريك التجاري الثاني عام 2019 بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ بلغ حجم الاستثمارات الأوروبية (باستثناء البريطانية) في الصين نحو 150 مليار يورو، وعلى الجانب الآخر بلغت الاستثمارات الصينية في الدول الأوروبية نحو 113 مليار يورو.

 اندو باسفيك (Indo Pacific Strategy 2022)، مفهوم مدريد الاستراتيجي، أيّ علاقةٍ؟

مع تراجع أهمية “الشرق الأوسط” في مركز الاهتمام العالميّ لواشنطن لأسبابٍ كثيرة ..، ظهرت منطقة الـ (اندو باسفيك) كمركز اهتمامٍ رئيسٍ لواشنطن، تمتد هذه المنطقة من ساحل المحيط الهادئ إلى المحيط الهندي، وهيّ موطنٌ لأكثر من نصف سكان العالم، وحوالي ثلثي اقتصاد العالم، وسبعة من أكبر الجيوش في العالم، وتتمركز فيها أكبر قوةٍ من أفراد الجيش الأمريكي في العالم، وهيّ تدعم أكثر من ثلاثة ملايين وظيفة أمريكية، وهيّ مصدر ما يقرب من 900 مليار دولار من الاستثمار الأجنبيّ المباشر في الولايات المتحدة، كما تُمثل هذه المنطقة ما يصل إلى ثلثي النمو الاقتصادي العالميّ، لذلك باتت الهيمنة الأميركية عليها أولى الأولويات العالمية لواشنطن وذلك من خلال (ردع أو احتواء الصين)، وفي 22 شباط (2022)، أعلن البيت الأبيض عن استراتيجيته الجديدة لمنطقة “المحيطين الهندي والهادئ” ( The new US Indo-Pacific Strategy)، والتي تتعهد بدعم الترابط الإقليميّ والتجارة والاستثمار وتعميق الشراكات الثنائية ومتعددة الأطراف، وتعزيز التعاون بين الولايات المتحدة والهند كخطٍ رئيسٍ للاستراتيجية، بالإضافة إلى توسيع الشراكة الأمنية الرباعية (Quad) (الولايات المتحدة أستراليا واليابان والهند)، والثلاثية (AUKUS) (بريطانيا الولايات المتحدة أستراليا)، خدمةً للهدف الرئيس للاستراتيجية وهو “استدامة النفوذ الأمريكيّ لتحقيق الأهداف الإقليمية”، و”بناء توازن النفوذ” في المنطقة وإدارة المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وبناء “توازن نفوذ في العالم يكون في أقصى درجاته في صالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها. وعلى عكس كلّ الاستراتيجيات الأميركية الخاصة بمناطق جيوسياسةٍ بعيدةٍ عن أوروبا، تسعى الاستراتيجية الجديدة إلى مواءمة النهج الأميركيّ الجديد مع استراتيجية الاتحاد الأوروبيّ وحلف شمال الأطلسيّ، في منطقة عمل مركز القيادة الأميركية للمحيطين الهادئ والهندي (اندو باكوم  USINDOPACOM)، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الاعتراف بأنّ استراتيجيات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للمنطقة تختلف في مجالات مختلفة، ويجب مواءمتها لاحتواء وردع الصين، وهنا نعود إلى سياسات الاتحاد الأوربيّ بشأن تلك المنطقة، ففي 19 نيسان 2021، تبنى المجلس الأوربي استنتاجاتٍ حول استراتيجية الاتحاد الأوروبيّ للتعاون في المحيطين الهندي والهادئ، والتي انطلقت من الثقل الاقتصاديّ والديموغرافيّ والسياسيّ المتزايد لتلك المنطقة والذي  يجعلها لاعبًا رئيسيًا في تشكيل النظام الدوليّ والتصدي للتحديات العالمية، وبالتالي هدف المشاركة المتزايدة للاتحاد الأوروبي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ هو – حسب الأوربيين- الحفاظ على منطقة المحيطين الهنديّ والهادئ حرةً ومفتوحةً للجميع (منع هيمنة الصين)، مع بناء شراكاتٍ قويةٍ ودائمةٍ (الأسيان)، من خلال تعزيز هيكلٍ أمنيٍّ إقليميٍّ مفتوحٍ وقائمٍ على القواعد، بما في ذلك خطوط الاتصال البحرية الآمنة، وبناء القدرات والوجود البحري المعزز من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، علاوةً على ذلك، إجراء المزيد من التدريبات المشتركة ومكالمات الموانئ مع شركاء المحيطين الهنديّ والهادئ، بما في ذلك التدريبات متعددة الأطراف، لمكافحة القرصنة وحماية حرية الملاحة في المنطقة، وسيدعم الاتحاد الأوروبي أيضًا قدرة شركاء المحيطين الهندي والهادئ على ضمان الأمن البحري.

لذلك يمكن الاستنتاج أنّ استباق الإدارة الأميركية إعلانها لاستراتيجية (اندو باسفيك) قبيل إعلان “مفهوم مدريد الاستراتيجي”، هو لدفع الناتو تحت تأثير مخاوف العملية الروسية في أوكرانيا لتعميق الترابط بين تحالفات واشنطن الأمنية والعسكرية والاستراتيجية (أوكوس، غواد)، مع الهيكل الأمنيّ الإقليميّ للناتو (المزمع إنشاؤه) في منطقة الباسفيك، ليشتمل مفهم “مدريد الاستراتيجي” على استراتيجيات الاحتواء والمنافسة الاستراتيجية مع الصين، بدل نهج التعاون والاستثمار (2020)، وتستغل الإدارة الأميركية أحداث الأزمة الأوكرانية (2022) لتعزيز مخاوف أوروبا من تحالف الصين وروسيا ضدّ ما تسميه (القيم الليبرالية العالمية)، لإنشاء تحالفٍ عسكريٍّ أمنيٍّ سياسيٍّ في منطقة الباسفيك الهادئ، شبيهٍ بحلف شمال الأطلسي.. يمارس (الاحتواء الصلب) (hard containment) مع الصين، الدبلوماسية مع القدرة على الإيذاء Power to Hurt))، ضمن معادلة (لا حرب مع الصين، ولكن لا مساحةً استراتيجيةً مجانيةً لها)، فالردع الناجح يعني  بحسب (توماس شيلينغ ) الحاصل على جائزة نوبل، القدرة على إظهار حاسم للاستعداد لاستخدام القوة إذا لزم الأمر، يدعم الاحتواء الصلب الجديد، مسار (الاحتواء الناعم) الأميركي للصين المعلن سابقاً تحت اسم (استراتيجية الأحزمة الليبرالية) (بمعنى: بناء تحالفاتٍ سياسيةٍ، ترفع شعارات حقوق الإنسان والمثل والقيم الليبرالية بجوار الصين الجيو سياسي، لمحاولة جعلها دولةً “مكروهة من جيرانها”)، لتبقى كلّ الأسئلة المتعلقة بردّ فعل الصين مؤجلةً إلى ما بعد نهاية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي ستساهم في صياغة ردّ فعل الصين الاستراتيجيّ على ثنائية (مدريد الاستراتيجية”، “اندو باسفيك” الأميركية).

الدكتور سومر صالح – دكتوراه في العلوم السياسية