مجلة البعث الأسبوعية

في حضرة الحديث عن “الإصلاح الاقتصادي” تطوير السياسات يستدعي بالضرورة تطوير وتعديل مهام المؤسسات وتتبع أداءها بشكل مستمر

البعث الأسبوعية – المحرر الاقتصادي

يفترض أن لا يكون القطاع الحكومي بعيداً عن التطورات التي حدثت وتحدث لجهةظهور ما يسمى بعلم الإدارة العامة الجديدة، وما نادت به من تطبيق مفاهيم إدارة الأعمال الخاصة في إدارة المنظمات العامة إلى انتقال عدوى قياس الأداء والاهتمام بالقيمةإلى عديد الحكومات في دول العالم.. فإذا كان عصر الستينات هو عصر التسويق، وعصر الثمانينات هو عصر المبادرات الخاصة بالجودة، وعصر التسعينات هو عصر خدمة العميل، فيمكن اعتبار أن العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين تنبئ بدخول هذا القرن عصر قياس الأداء، ما يعني أن العالم تحول من عملية العدّ – إن صح التعبير- إلى عملية المحاسبة، ومن ثم إلى قياس الأداء..!.

البداية

لقد بدأت الدول المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرهما في الاهتمام بقياس الأداء الحكومي بتطبيق مبدأ أفضل قيمة، فمنذ العام 2000 أصبحت عملية قياس الأداء في كل جهة حكومية فيدرالية في الولايات المتحدة عملية أساسية طبقاً لقانون قياس الأداء والذي صدر عام 1993، وكذلك الأمر في بريطانيا فمنذ نيسان 2000 أصبحت عملية قياس الأداء عملية إجبارية وباستخدام أسلوب أفضل قيمة كمعيار للقياس في كل الهيئات الحكومية البريطانية، ويعكس هذا بالطبع استجابة الحكومات لمتطلبات وتوقعات دافعي الضرائب وبالتالي ضرورة المحاسبة والمساءلة والتأكد من مدى فاعلية وكفاءة الإنفاق الحكومي.

يمكن القول: إنه إلى وقت قريب كانت معظم الجهات الحكومية العالمية لا تهتم بالقيمة الاقتصادية أو السوقية لإنفاقها، لكن هناك ما يشير إلى أن هذه الممارسات بدأت تتلاشى أمام زحف مفهوم أفضل قيمة والمتمثل بمدى مساهمة الخدمة أو المنتج في رفاهية المجتمعات على هذه الجهات، حيث لوحظ وجود تحسن باقتصاديات العمليات الحكومية، وزيادة استجابتها لاحتياجات المواطنين، ومدى فاعليتها وكفاءتها وشفافيتها، وهذا ما يشكل الدعامة الأساسية للمبادرات الخاصة بالإصلاح الإداري للحكومات.

صعوبة

يرى معظم الاقتصاديين وجود صعوبة قياس الأداء الحكومي كونه يندرج تحت معايير غير كمية تتعلق بالنواحي الأخلاقية من عدالة واستقامة ونزاهة ….الخ، فضلاً عن التشابكات الكبيرة بين مؤسسات القطاع العام، وإذا ما أردنا تقييم أداء أي شركة عامة –خاصة الاقتصادية- لابد من مراجعة ميزانيتها بشكل أساسي لمعرفة قيمة أرباحها الحقيقية، وهنا يبين أحد المدراء المركزيين في إحدى الوزارات الاقتصادية، أن بعض المدراء العاميين يتباهى بربحية مؤسساتهم غير الرابحة بالأصل وفق حسابات الميزانية الختامية للمؤسسة، على اعتبار أن نفقاتها أكبر من إيراداتها، فعلى سبيل المثال يورد بعض المدراء أمام رؤسائهم أن قيمة شراء سلعة ما بلغ 10 مليون ليرة سورية، وتم بيعها بـ 12 مليون، أي أن قيمة الربح الصافي من هذه العملية هو 2 مليون، لكنهم في حقيقة الأمر يخفون ما يلحق بها من نفقات إدارية ورواتب وأجور، فتكون المؤسسة في نهاية المطاف خاسرة لدى حساب الميزانية الختامية لها.

خسارات

الاقتصادي الدكتور زكوان قريط أنه لدى معاينة مستوى أداء إحدى شركات القطاع العام يجب حساب قيمة موجوداتها وأصولها الثابتة خاصة الأرض والتي هي في حالة ارتفاع دائم، إلى جانب حساب المصاريف المترتبة عليها نتيجة التشابكات المالية بينها وبين الشركات العامة الأخرى وتصفيتها كفواتير الكهرباء والهاتف وغيرها من التراكمات، حتى نستطيع الوقوف على الوضع المالي لهذه الشركات لنرى إذا كانت خاسرة أو رابحة وبالتالي يمكن قياس أدائها بشكل دقيق.

المتتبع لأداء عمل مؤسساتنا وشركاتنا الحكومية يجد أن معظمها تعاني من خسارات ليست بالقليلة، باستثناء بعضاً منها كالتبغ والأقطان كون القطاع العام هو المسيطر عليها دون منافسة من نظيره الخاص، إلى جانب المؤسسة العامة للتجارة الخارجية التي تتقاضى عمولات على البضائع المستوردة لصالح القطاعين العام والخاص حسب ما أكدته بعض المصادر الرسمية، ما انعكس على ارتفاع الأسعار وتحمل المواطن باعتباره الحلقة الأخيرة المستفيدة من اقتناء السلعة، مشيرة إلى أن هذه العمولات تؤخذ دون تقديم خدمة أو قيمة مضافة حقيقية للسلعة.

أول بأول

لاشك أن القطاع الحكومي لا يقتصر على المؤسسات والشركات الاقتصادية المنتجة، وإنما يحوي كثير من الجهات والهيئات الخدمية والإدارية والقضائية ..الخ، وبالتالي فإن قياس مستوى أدائه لا يعتمد على ميزانيات حسابية لتبيان خسارته أو ربحه، ما يحتم ضرورة وجود معايير وضوابط تحدد آلية حُسن سير عمله، وهنا يركز قريط على أهمية قياس الأداء أولاً بأول وبشكل مستمر، وذلك من خلال تفعيل دور المواطن بحيث يعبر عن مستوى رضاه عما يقدم له من خدمات، واعتماد أساليب تواصل معه كاستطلاعات الرأي وهنا يجب على الإعلام أن يلعب دوراً كبيراً فيها وعليه أن يكون شريكاً مهماً وإستراتيجياً في هذه العملية.

مستقلة

وأضاف قريط أن العامل الثاني لقياس الأداء يتمثل بوجود جهة رقابية مستقلة ذات صلاحيات واسعة جداً وقادرة على محاسبة المقصر الفاسد، ومكافأة المجد المثابر، معتبراً أن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش غير قادرة بالقيام بهذا الدور، كأن تُحدَث هيئة عليا لقياس الأداء الحكومي تقوم بمراقبة كل مفاصل عمل القطاع العام، ومحاسبة كل من لا يُقوّم أدائه بعد إعادة هيكلتها، لا أن يتم اللجوء إلى بيع المؤسسات الاقتصادية الخاسرة وإلحاق موظفيها بجهات إدارية أخرى تحت ذريعة الحفاظ على حقوقهم، فالأجدى إما البحث عن مشروع آخر يحقق إيرادات للخزينة العامة للدولة، أو تطوير العمل بكل حيثياته وتفاصيله بدءاً من الكادر البشري، مروراً بالآلات، وانتهاءً بالتسويق.

منطق التاجر

بينما يرى المدير المركزي آنف الذكر، أن الحل الأمثل لتحسين مستوى الأداء يتمثل بضرورة تعديل مراسيم إحداث هذه المؤسسات بما يتماشى مع الواقع الراهن والمنافسة الحقيقية مع القطاع الخاص، بحيث تمنح المؤسسات الاقتصادية التجارية والصناعية الاستقلالية في ميزانياتها، وأن تتعامل بمنطق الربح والخسارة مثلها مثل أي تاجر، لأن استمرار العمل بالأنظمة الحالية في ظل المنافسة الشديدة للقطاعات الأخرى يزيد من تراجع أدائها ويوقعها في مآزق مالية لا يمكن أن تستمر.

وأشار إلى أن تطوير السياسات الاقتصادية المنضوية تحت عملية الإصلاح الاقتصادي تستدعي تطوير وتعديل سياسات ومهام ووظائف المؤسسات والشركات التابعة لوزارة الاقتصاد –مثلاً- كمؤسسات تجارية داخلية وخارجية وشركات إنتاجية، من شأنها تأمين خدماتها الاقتصادية والاجتماعية للشريحة الأكبر من المجتمع، لاسيما أنها تمتلك خبرات متراكمة على مدى سنوات وجودها، وقد ازدادت الحاجة إليها في هذه المرحلة لتكون الذراع الحكومي الأساسي في توفير السلع والخدمات بالأسعار المناسبة والمواصفة الجيدة، وبنفس الوقت تكون المنافس الحقيقي للقطاعات الأخرى في ظل تحرير التجارة الخارجية وإلغاء العمولات التي تتقاضاها على مستوردات القطاعين العام والخاص.

عناوين

في ذات السياق يثير الاقتصادي المختص بعلم الإدارة علي حسن مسألة طول فترة البقاء في المنصب وما يندرج تحتها من عناوين كثيرة، ليس أولها المحسوبيات ودورها برفد المفاصل الحكومية بكوادر غير كفوءة، وليس آخرها الحصول على امتيازات من تحت الطاولة لمسؤولين آثروا المصلحة الشخصية على العامة، ولو أسلمنا جدلاً أن خبرة صاحب المنصب المُعمِرْ هي بالفعل نادرة الوجود وتستدعي أن نتمسك به حتى يدير دفة القيادة ليصل بمؤسسته بر الأمان، ألن يصل هذا المدير (النادر الوجود) يوماً ما إلى درجة كبيرة من الروتين العملي تدفعه –على أقل تقدير- لطلب نقله لمكان آخر يجدد فيه حيويته العملية، وينهل معرفة وخبرة جديدتين ويتعرف على موظفين جدد يضافوا إلى قائمة علاقته المهنية والاجتماعية؟ أم أن التمسك بالكرسي يقوقع الشخص على ذاته ويجعله يخشى من المجهول واقتحام أجواء أخرى يتكيف معها؟ خاصة وأننا نعيش عصراً متسارعاً بتطوراته اللحظية ومن لا يواكبها -ولو نسبياً- يجد نفسه في واقع غريباً عنه، يصعب عليه مجاراته.

الإدارة بالأهداف

وربط حسن أن نسبة انتشار هذه الظاهرة وعدمها بمدى قوة وضعف الاقتصاد الوطني في أي بلد، فعندما يكون الاقتصاد قوياً ونشيطاً جداً ومعززاً بمؤسسات فاعلة تعمل وفق مبدأ الإدارة بالأهداف، تقل نسبة من يحبذ التمترس بكرسي المنصب لفترة طويلة، لأنه -ووفقاً لتفكيره الإنساني- يندفع للبحث عن عمل آخر في مؤسسة أخرى بهدف التخلص من الروتين أولاً، والبحث عن التجديد والتطوير الذاتي عبر الإلمام بخبرات جديدة بغض النظر عن الدخل المادي ثانياً، مضيفاً أن عدم وجود منصب آخر يتناسب مع إمكانيات مدير ما –في بعض الأحيان- قد يكون أحد أسباب تمسكه بمنصبه الحالي.

نادرون

واعتبر حسن أن للمنظومة الثقافية الاجتماعية دوراً كبيراً في هذا الأمر على اعتبار أن من يعتلي منصباً عالياً في الدولة، يخشى نظرة المجتمع إليه في حال تخلى عنه، ما يدفعه إما للتمسك به قدر المستطاع، أو البحث عن منصب أعلى، ليخلص بالنتيجة أن طول فترة البقاء في المنصب تؤثر في بعض الأحيان على الأداء العام لأي مؤسسة، ولاسيما إذا ما استنفذ المدير المسؤول عنها ما بجعبته من مبادرات، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن بعض المدراء –حتى لو طال بقائهم في المنصب وهم نادرون طبعاً- يستمرون بإضفاء بصماتهم وتطوير أداء مؤسساتهم.

أثبتت فشلها

تؤكد تجارب الدول الأخرى أن منافسة القطاع الخاص لنظيره العام تؤدي إلى خسارة الأخير لاعتبارات تتعلق بمستوى تدقيق الأول وحرصه على متابعة سيرورة أعماله، ما يحتم على العام بسط سيطرته على قطاعات إستراتيجية خدمية وإنتاجية دون الخاص، وألا يدخل معه بمنافسة في بقية القطاعات، بحيث يكمل بعضهما الآخر في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فالهاتف والبريد والتدريس والكهرباء وغيرها يجب حصرها بيد القطاع العام ولا يتدخل فيها نهائيا القطاع الخاص، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا بأن تجربة منافسة الخاص للعام في مجال التدريس أثبتت فشلها، وأصبحت المنافسة على حساب الارتقاء بمستوى التعليم، وكذلك الأمر في مجال النقل الداخلي حيث استغل المستثمرون حاجة المواطن اليومية لهذا الموضوع الحيوي ولم يبال بتقديم الخدمة المناسبة.