مجلة البعث الأسبوعية

كليجدار أوغلو خسر الربيع والديمقراطية الهادئة أردوغان الفائز يواجه تحديات كبيرة في العقد الثالث لرئاسته

البعث الأسبوعية- عناية ناصر 

حسم الرئيس رجب طيب أردوغان جولة إعادة الانتخابات الرئاسية التي جرت في 28 أيار أيار 2023 ليصبح رئيساً للجمهورية التركية لخمس سنوات قادمة بـ 52.87% من أصوات الناخبين، مقابل 47.13% لمنافسه كمال كليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، فيما حصل التحالف الانتخابي لأردوغان على الأغلبية البرلمانية 321 من إجمالي 600 نائب.

ووفقاً لقانون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الجديد في تركيا، فقد أجبرت الأحزاب السياسية على الدخول في تحالفات، وفق التعديلات الدستورية التي نقلت البلاد إلى النظام الرئاسي بدلاً من البرلماني عام 2018، مع تحديد عتبة برلمانية يتوجب تجاوزها لدخول البرلمان من قبل الأحزاب في حال خوضها الانتخابات منفردة. وكانت التحالفات الخمس التي شاركت في الانتخابات التركية التي جرت خلال الجولة الأولى في 14 أيار هي التحالف الجمهوري، وتحالف الشعب، وتحالف أتا، وتحالف الجهد والحرية، وتحالف اتحاد القوى الاشتراكية. وتضم التحالفات القائمة أحزاباً غير متجانسة وتختلف في توجهاتها، فالتحالف الجمهوري يضم حزب الحركة القومية من جهة، ويحظى بدعم حزب هدى بار الكردي الإسلامي المتناقض في التوجّه معه. كذلك الحال بين حزب اليسار الديمقراطي والرفاه من جديد، فلكل منهما توجهات مختلفة، ربما تنعكس على التحالف مستقبلاً.

والأمر نفسه فيما يتعلق بتحالف الشعب المعارض، إذ يضم حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي مع أحزاب السعادة والمستقبل ودواء الإسلامية، والحزب الجيد القومي. ويتلقى التحالف دعماً من حزب الشعوب الديمقراطي المتهم بالارتباط بحزب العمال الكردستاني، وهو ما قد يكون سبباً لخلافات مستقبلية داخل التحالفات.

ووفق الإحصاءات الرسمية للجولة الأولى، فقد حصل أردوغان على 49.52% من الأصوات 27 مليوناً و133 ألفاً و849 صوتاً، بينما حصل كليجدار أوغلو على 44.88% من الأصوات 24 مليوناً و595 ألفاً و178، فيما حصل مرشح تحالف الأجداد، سنان أوغان على 5.17% من إجمالي الأصوات 2.28 مليون صوت.

ويعتبر كمال كليجدار أوغلو  الذي كان مرشح المعارضة الرئيسي لأردوغان، وهو موظف رسمي سابق مخضرم في السياسة رئيس حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك – مؤسس تركيا الحديثة، قد وعد بـ”العودة إلى الربيع” و”ديمقراطية هادئة”، والعودة إلى دولة القانون، وإلى النظام البرلماني لإدارة البلاد، واستقلال القضاء الذي يقول منتقدون إن أردوغان استغله لقمع المعارضة، لكنه بدأ منذ 14  أيار تشديد لهجة خطاباته مع محاولة لاستمالة الناخبين القوميين من أجل هزيمة أردوغان، متعهداً بإعادة10 ملايين لاجئ إلى بلادهم. ففي مواجهة احتمال الهزيمة، غير مواقفه، متخلياً عن وعوده بمعالجة الانقسامات الاجتماعية، وقال خلال زيارة لأنطاكية، إحدى المناطق المتضررة من زلزال شباط:  “لن نحول تركيا إلى مستودع للمهاجرين”.

لقد شكّلت نتائج الجولة الأولى صدمة غير متوقّعة لتحالف “الشعب”، خاصة أن حليفه في هذه الانتخابات هو الوضع الاقتصادي المتردي، وزلزال شباط المدمر. ويبدو أن التحالف المعارض، أو ما عُرف سابقا باسم “الطاولة السداسية”، لم يكن مستعداً لمثل هذه النتيجة، ولم تكن له خطة واضحة لإدارة الأزمة. وعلى إثر الصدمة، أقال كليجدار أوغلو مديري حملته الانتخابية، كما بدا رد فعل الأحزاب المتحالفة باهتاً في دعمه قبيل الجولة الثانية، حسب وصف الخبراء، مما رجح وجود خلافات داخلية، الأمر الذي يثير التساؤل عن مدى إمكانية تماسك تحالف الشعب، حيث كانت عملية تسمية مرشح يمثل التحالف أول مؤشرات الخلافات، والتي مسحت مصداقية المعارضة، وقطعت روابط تماسكها الضعيف.

وكان الناخبون قد واجهوا مشهداً سياسياً فوضوياً وفقاً لما أظهرته معظم استطلاعات الرأي، إضافة إلى أن أجواء المنافسة الانتخابية كانت محتدمة نتيجة الاستقطاب السياسي والاجتماعي بين أكبر تكتلين سياسيين في تركيا، هما تحالف الشعب الحاكم، وتحالف الأمة المعارض، فضلًا عن تحالف العمل والحرية “الكردي”، وتحالف الأجداد “القومي” الذي تم حلّه بقرار من الأحزاب المنضوية تحت رايته.

تحديات تواجه أردوغان  في ولايته الجديدة

هناك العديد من الاستحقاقات المهمة، والقضايا الملحة التي تواجه أردوغان وحكومته المرتقب تشكليها، وخاصة مع تعهد أردوغان خلال حملته الانتخابية بالعمل على ملفات وقضايا ملحة منها علاج كارثة الزلزال الذي ضرب مناطق الجنوب في 6  شباط الماضي، وامتد على مساحة 300 كيلومتر، حيث تعرضت حكومة أردوغان لانتقادات بسبب تأخرها وتوقف استجابتها للكارثة، فضلاً عن التراخي في تنفيذ قوانين البناء التي أدت إلى تفاقم الخسائر. بالإضافة إلى تشريد حوالي مليون ونصف تركي، وتعرض أكثر من 160 ألف مبنى للانهيار، وتتطلب إعادة الإعمار وفقاً للتقديرات الاقتصادية 45 مليار دولار، مع تخصيص مبالغ إضافية للبنية التحتية من كهرباء ومياه وصرف صحي.

التضخم والوضع الاقتصادي المتردي

يمثل الوضع الاقتصادي المتدهور، والذي يمر بمرحلة حرجة أحد أهم التحديات الداخلية التي يتعين على الرئيس التركي التعامل معها بشكل سريع، حيث زاد تفشي فيروس كوفيد-19، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ثم كارثة زلزال 6 شباط الماضي من تعميق الأزمة الاقتصادية، نتيجة تداعياتها الدرامية، وتأثيرها المرتقب على الناتج المحلي الإجمالي.

وهنالك أيضاً أزمة غلاء المعيشة الحادة التي يلقي الخبراء باللوم فيها على سوء إدارة الحكومة للاقتصاد، في حين يعتقد أردوغان أن أسعار الفائدة المنخفضة تعمل على ترويض التضخم، على عكس النظرية الاقتصادية التقليدية، وتضغط على البنك المركزي ليعكس وجهة نظره. وكان معدل التضخم  قد وصل رسمياً إلى نحو 44 في المئة، لكن كثيرين يشككون في هذا النسبة، ويقولون إن معدل التضخم أعلى من ذلك بكثير، حيث بدأ في الارتفاع بشدة بعد أزمة العملة أواخر عام 2021.

وكانت أسعار المواد الغذائية قد  ارتفعت 54 في المئة على أساس سنوي في نيسان الماضي، مع انخفاض معدل التضخم أخيراً بعد أن بلغ ذروته في تشرين الأول الماضي عند 85.5 في المئة، وهو أعلى مستوى خلال حكم أردوغان.

لقد أفقدت سياسات أردوغان غير التقليدية التي دعا إليها بهدف تحقيق النمو إلى هبوط قيمة  الليرة  التركية بنسبة  80% من قيمتها على مدى  الـ 5 سنوات الماضية، الأمر الذي أدى إلى تكريس مشكلة التضخم، وكانت الليرة التركية قد سجلت مستوى قياسياً منخفضاً قبل جولة الانتخابات الرئاسية الحاسمة يوم الأحد الماضي. ونتيجة لذلك تدهورت الليرة التي تعتبر رمز الأزمة في تركيا، وأصبحت تفقد جاذبيتها بشكل متزايد بالنسبة للمستثمرين القلقين مما ستؤول إليه الأوضاع في مع بقاء رجب طيب إردوغان على رأس السلطة.

زيادة على ذلك، سيشهد المشهد السياسي التركي تفكُّك تحالفات بدأت بانهيار تحالف “الأجداد” القومي، وموجة “انشقاقات حزبية”، لا سيما أنها أحد مظاهر الساحة السياسية التركية خلال السنوات الـ 7 الماضية، ومنها أحزاب الجيد، والمستقبل، والديمقراطية، والتقدم، والوطن، ليس فقط لخلافات بين التيارات التقليدية لكن بسبب الخلافات الحزبية الداخلية.

ويبدو حزب الشعب الجمهوري برئاسة كليجدار أوغلو الأقرب لهذا السيناريو، كونه لم يتخل عن عقلية الحزب الواحد منذ ولادة الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وحتى وفاته عام 1938، غرّد خلالها الحزب “منفردًا”، وخلال السنوات الأخيرة (2010-2023) يدير كليجدار أوغلو الحزب بالطريقة نفسها.

 مرحلة سياسية جديدة

مما لا شك فيه أن تركيا مقبلة على مرحلة جديدة، سيتجه فيها الرئيس أردوغان إلى تعزيز النظام الرئاسي بالتعاون والتنسيق مع الأغلبية التي حققها تحالف الجمهور في الانتخابات البرلمانية، وعلى الرغم من الفوز الذي حققه الرئيس أردوغان وتحالفه الانتخابي في الانتخابات، فإنه أشار إلى انخفاض واضح في الكتلة التصويتية له، وقد يكون هذا الأمر مبرراً بسبب الظروف التي مرت بها تركيا، سواء على مستوى الأزمات الاقتصادية، أم كارثة الزلزال، أم حتى على مستوى العلاقات الخارجية، ما يجعل الرئيس أردوغان أمام تحدٍ حقيقي في المرحلة المقبلة.

كما سيكون الرئيس أردوغان أيضاً على موعد جديد مع الشعب التركي، سواء على مستوى التعديلات الدستورية التي سيجريها أم على مستوى الانتخابات البلدية التي ستجري في العام المقبل، إذ سيسعى الرئيس أردوغان إلى إعادة البلديات الكبرى إلى حاضنة حزب العدالة والتنمية، وتحديداً أنقرة وإسطنبول، فدون إعادة هذه البلديات، لن يتمكن من ترجمة العديد من السياسات الخدمية على أرض الواقع، التي يمكن أن تعضد من مسار حزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات المقبلة، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار أن هذه الانتخابات قد تكون آخر انتخابات يخوضها الرئيس أردوغان.

سيجد حزب العدالة والتنمية نفسه مطالباً باستيعاب أي تباين في الرؤى والأفكار بين قياداته وكوادره، ومواصلة اللجان الداخلية التي شكّلها أردوغان سابقاً لتبنّي المزيد من السياسات التي تعزز تماسك الحزب وتحافظ على رموزه، وتحمل قيادات المجلس الاستشاري الأعلى لمسؤولياتهم في الخروج برؤى وحلول غير تقليدية على كل الأصعدة.

يبرز أمام أردوغان تحد آخر يتمثل في تنفيذ انتقال لا مثيل له في تاريخ تركيا الحديث، وذلك لأن أردوغان، خلال فترة حكمه، هو السياسي الشعبوي الاستبدادي الذي وضع تركيا ومؤسساتها المجتمعية ذات الأهمية تحت سيطرته، بدءاً من النظام القضائي إلى البنك المركزي، كما تم تجريد الجامعات الحكومية ومعظم الصحافة والبرلمان والجيش والبيروقراطية من استقلاليتهم. ومع ذلك، لا يمكن لأي شيء المضي قدماً دون إعادة إرساء سيادة القانون أولاً. بالإضافة إلى أن أنه لا يمكن للمرء جذب الاستثمارات في بيئة يتم فيها انتهاك القواعد القانونية باستمرار. وبناءً على ذلك كيف ستتعامل الحكومة الجديدة مع التوقعات المكبوتة بشأن الإنصاف والعدالة في بلد سُجن فيه الآلاف بشكل تعسفي أو طُردوا من وظائفهم ومهنهم؟.

هنالك أيضاً رهان مجتمعي داخلي له علاقة بتراجع التقاليد العلمانية التي بنيت عليها تركيا الحديثة منذ تأسيسها في عشرينات القرن الماضي مع كمال أتاتورك، فرغبة الرئيس التركي في العودة لرموز الثقافة الإسلامية التي تأسست عليها الإمبراطورية العثمانية ليست بخافية، وليس أكثر رمزية على ذلك من إقرار إقامة الصلاة الإسلامية في مسجد آيا صوفيا ذي الأصول المسيحية.

شريحة الشباب في المشهد التركي

كان لشريحة الشباب والتي تمثل حوالي 8% من إجمالي الكتلة التصويتية في الانتخابات التركية تأثير كبير في المشهد السياسي، وفي محاولة منه لجذب أصوات الناخبين في ظل الوضع الاقتصادي المتردي، خاصة الشباب، وعد أردوغان بخلق ستة ملايين وظيفة، وتحقيق معدلات نمو عالية، والقيام بمراجعة سياسة التوظيف في القطاع الحكومي، ورفع نصيب الفرد من الدخل القومي إلى 16 ألف دولار سنوياً، والعمل على تعزيز المكتسبات التي تحسّن واقعهم وتفي بمطالبهم، خاصة أنه بالنظر إلى خريطة الأحزاب السياسية الأخرى، فإن شريحة الشباب لا تحظى برؤية واضحة تعالج المشكلات، والتحديات التي تواجه الجيل من تعزيز الحقوق والحريات، ونمط العيش، والتعليم وفرص العمل.

وبالمحصلة فإن الفوز في الانتخابات سيترك أردوغان في مستنقع من صنع،ه وفقاً لتعبير المراسلة الصحفية لويز كالاهان، أنه في حال فوز أردوغان، ستكون مشاكل تركيا قد بدأت بالفعل.