ثقافةصحيفة البعث

الأبطال السّيئون يعطون البريق لعيوبهم

في كتابه “الجمهورية”، يبيّن أفلاطون حاجة المجتمعات إلى أبطال جدد، ذاك أنّ المجتمع الأثيني كان يرتكز بشدّةٍ على الأغنياء ومشاهير الرّياضة، لكنّه رأى أنّ من نعجب به هو أمر مهمّ حقّاً لأنّ المشاهير يؤثّرون على نظرتنا وسلوكنا والأبطال السّيئين يعطون البريق إلى عيوب شخصياته، لذلك أراد أن يمنح أثينا مشاهير جدداً ليحلوا محل النّتاج الحالي بأشخاص من ذوي الحكمة أو كما وصفهم “الأوصياء” أي نماذج للتّنمية الجيدة يتميّزون بالتّواضع والعادات البسيطة وكراهيتهم لبريق الشّهرة وخبرتهم العميقة ويكونون أكثر تقديراً في المجتمع.

ومثل الأبطال الذين تحدّث عنهم أفلاطون نجد الكثير في الدّراما التّلفزيونية تحديداً، فالشّخصية السّيئة هي التي يركّز عليها الجميع: كاتب السّيناريو والمخرج والممثّل وجمهور كبير لا بأس به ولاسيّما من فئة اليافعين والمراهقين الذين غالباً ما ترتبط مراهقتهم بتقليد ممثّل يؤدّي ـ تحديداَ ـ شخصيةً شريرةً أو سلبيةً من حيث الزّي والحديث واللهجة والأسلوب والطّريقة في الشّرب والأكل والمشي والجلوس، ولعلّ هذه الشّخصيات والأدوار هي التي ترسخ في الذّاكرة أكثر من تلك الطّيبة والجيدة أو “الوصية” كما أراد أفلاطون أن يسمّيها، والأمثلة كثيرة نذكر من السّينما المصرية على سبيل المثال لا الحصر الفنّان عادل أدهم الذي لُقّب بـ”ملك الشّر” نظراً لبراعته بأداء هذا النّمط من الشّخصيات ومن أعماله “المجهول” و”حافية على جسر الذّهب” و”السّلخانة” وغيرها، كذلك الأمر بالنّسب للفنان محمود المليجي الذي لُقّب أيضاً بـ”شرير السّينما” للسّبب ذاته ومن أشهر أعماله “الشّريرة” و”أبو الليل” و”ابن الشّيطان”.

وفي الدّراما التّلفزيونية المحلية أمثلةٌ كثيرة ومتعددة عن شخصيات شريرة تفنن الكتّاب والمخرجون بتنمية الشّر في داخلها وطرائق إظهاره مادياً ومعنوياً وهي شخصيات يصعب نسيانها على الرّغم من مرور السّنوات، نذكر مثلاً الفنّانة منى واصف التي برعت في أداء أدوار الشّر ـ كما الخير طبعاًـ فمن منّا لا يتذكّر “أم المخرز” في مسلسل “ليالي الصّالحية” أو”أم عزمي” في مسلسل “أهل الرّاية” أو”قدرية” في مسلسل “الصّندوق الأسود” التي كانت تبرر سلوكها الشّرير بخوفها على مصالح عائلتها؟ ونذكر الفنّانة أمانة والي التي أدّت شخصية “أم دبّاح” في مسلسل “عناية مشددة” المجرمة التي تقوم بتقطيع الجثث البشرية، وهو دور على الرّغم من قساوته أدّته والي بحرفية عالية، ونذكر من الفنّانين الذين برعوا بهكذا أدوار بسام كوسا وفادي صبيح وعابد فهد ورضوان عقيلي وغيرهم.

والسّؤال هنا: لماذا يُكتب للخيّر أن يقتل مراراً وتكراراَ في الحقيقة والدّراما؟ ولماذا يقدّر له أن يعاني الأمّرين حتّى يحقق جزءاً من عدالة يحلم فيها ويسعى إليها؟ أو أن يفرح بنصره لوحده بعد أن يفقد جميع أحبّته وذلك طبعاً في الحلقة الأخيرة من المسلسل؟.. هل لأنّهم ما يزالون يأخذون بمقولة: للخير شكل واحد ولا يمكن أن يكون إلّا كذلك ولا يمكن أن يجذب الآخرين كما يفعل الشّر في الجمهور؟ تماماً كما كنّا نسمع من أساتذتنا ومعلمينا في المدارس بأنّ الطّالب الجيّد معرّض للتّأثّر بالكسول أكثر من أن يكون العكس.

أمّا السّؤال الآخر الذي لابدّ من التّذكير به في كلّ مناسبة هو: لماذا لا يحسبون حساب شباب لن نقول بصغر عقولهم بل بسرعة وسهولة تأثّرهم بهكذا أدوار وتفاصيل وحركات ومقالب؟ سؤال نعرف إجابته مسبقاً هو أنّ هؤلاء الشّباب يشاهدون على صفحات التّواصل الاجتماعي والقنوات الأخرى المتخصصة بأفلام الرّعب والقتل والإجرام أكثر مما يشاهدونه على القنوات المحلية، لكن دعونا نفعل مايجب عليه فعله ومن ثمّ نقول بالنّتائج هذه.

مشكلات ومواضيع تضاعف حدوثها خلال الحرب التي عشنا شرورها المختلفة ونعيش تبعاتها السّلبية كلّ يوم، مع محاولة الدّراما ـ غالباً ـ والسّينما ـ أحياناً ـ نسخ تفاصيل الواقع أو مقاربتها أو الاستلهام منها، ومهما تكن نسبة نجاحها في أيّ من هذه الحالات فإنّها لن تضاهي بقسوتها وبشاعتها قسوة الواقع وبشاعته، وأيّاً يكن تفاعلنا مع هذه النّسخ والمقاربات أو يشعّ انبهارنا فيها صورةً ونصّاً وإخراجاً لن تصل مشاعرنا إلى تلك اللحظة الحقيقية التي عشناها، سواء إن كنّا نشاهد ممثّلاً يؤدّي دور شاب تختطفه عصابة من النّساء وتقتله لتتاجر بأعضائه ـ كما ذكرنا سابقاً في مسلسل “عناية مشددة” ـ أو غيرها من الأعمال الدّرامية التي تناولت الحرب وظروفها وتبعاتها ومآسيها والشّرور التي رافقتها منذ لحظاتها الأولى مثل “شهر زمان” و”مسافة أمان” و”ترجمان الأشواق” و”شوق” و”بانتظار الياسمين” وغيرها، فقد كان الحديث دائماً عمّا يريده المشاهد من الدّراما خلال سنوات الحرب؟؟ هل يريد واقعاً صرفاً بكلّ ما فيه من شرّ وقتل وإجرام؟ أم يريد خطاباتٍ وحلولاً؟ أم أنّه لا يريد هذا ولا ذاك، بل يريد ما يرسم الضّحكة على وجهه ويرفّه عن نفسه ويسليه بعضاً من همّه ـ مجّاناً ـ لأنّه لا يملك الجَلَد ليشاهد إعادة تمثيل مآسيه وتذكيره بها أو تشويهها وهو في الأصل لم ينساها بل يحاول تجاوز ما يختزن من قصص وروايات وذكريات أليمة تكفيه زمناً طويلاً ولأنّه مشغول أيضاً بإعادة ترتيب حياته وأولوياته وتنظيمها وتأمين لقمة عيشه ومستقبل أبنائه وفق الإمكانيات المتوافرة ولو بالحدود الدّنيا..

الشّر والخير موجودان ولا يمكن نفي أحدهما لمصلحة الآخر، لكن نسأل: لماذا نغذّي الشّر على حساب الخير في الدّراما؟ لماذا نعطي الشّر كلّ هذه القوّة والسّطوة ونفتح جميع الأبواب أمامه ونغلقها أمام الخير؟ لماذا لا ننتصر للخير ولماذا لا نعطيه في الدّراما نصف ما أعطانا في الواقع ويعطينا والأمثلة كثيرة تعدّ ولا تحصى والحرب كانت خير شاهد على ذلك.. نقول قولنا هذا وندعو المعنيين بالدّراما إلى إعادة النّظر فيما يقدّمون وفيما يركّزون عليه من أجل حصد الإعجابات وزيادة نسبة المشاهدات وإثارة الجدل الذي صار يعطي دعاية مجانياً لأي مسلسل، والتّوقف عن حمل راية “الجمهور عاوز كدا” وأخذ دورهم المطلوب في بناء أبنائنا وأبنائهم.

نجوى صليبه