ثقافةصحيفة البعث

إشكالية الموت في أدب جورج  سالم – غابرييل مارسيل – آلبير كامو

“الإنسان يحمل موته منذ ولادته”، هذا ما أراد أن يوصله الكاتب د. غسان السيد في كتابه “إشكالية الموت”، فقد بدأ بجورج سالم، وتحدث عن تاريخ الموت في الفكر الإنساني، فمنذ الأزل بقي الإنسان حائراً وعاجزاً أمام مشكلة الموت التي مثلت التحدي الأكبر الذي واجهته البشرية.. إنّ الإنسان طامح حالما تعيش معه الأحلام منذ أن يعي ذاته ويؤرقه أن تنهد تلك المطامح وأن تنهار تلك الأحلام دفعة واحدة. لقد بدأ بأسطورة دموزي وإنانا، وهبوط إنانا إلى العالم السفلي ليتم تجريدها من إرادتها، وتمثل أمام  أريشكيجال والأنوناكي، حكماء هذا العالم، ويسلط عليها “عيون الموت” فتتحول إلى جثة هامدة، ثم ما تلبث أن تعود إلى الحياة، وهذا ما يظهر جلياً في ملحمة جلجامش البابلية التي تتحدث عن استبداد جلجامش الملك، وبعد رحلة طويلة ومحفوفة بالأهوال والمخاطر يصل إلى أوتنابيشتيم، وحينها يكون جوابه أن الآلهة قد احتفظت لنفسها بالخلود وحكمت بالموت على عامة الناس.

لكن الإنسان لم يتوقف عن البحث والتأمل، ومن هنا يمكننا فهم تجربة سقراط الذي واجه الموت بكل شجاعة، لأنه كان يؤمن أن الحياة تتحقق بالموت، ففي الموت تتحرّر الروح السامية من الجسد الوضيع، لقد رفض التنازل عن معتقداته وواجه الموت بكل شجاعة حين تناول السم بيديه.

وجاءت الديانات السماوية للتخفيف من قلق الإنسان وجزعه حين قدّمت حلولاً لقيت إقبالاً واسعاً وذلك في ظل عجز الفكر الإنساني عن إيجاد تفسير مقنع لهذه الإشكالية. وكذلك طرح كيركغارد مفهوم الوجود الإنساني الذي يعرف أنّ كلّ البشر فانون، ولخصّ هيدغر موقفه من الموت عندما قال: “إن الإنسان منذ البداية محتضر”، ويصف جاسبر الوعي بأنه هشاشة الوجود، وفيلسوف الوجود سارتر الذي يقول إن الموت لا يمكن أن يكون إيجابياً لأنه يفقد الحياة كلّ معنى.

إنّ الأدب الوجودي استطاع أن يعبر عن المشاكل التي يواجهها الإنسان: قلق، عبث الحياة،  وجزع الوجود البشري من الموت، وعن طريق الأدب انتشرت الفلسفة الوجودية.

ولد جورج سالم في مدينة حلب، سنة 1933، ودرس في جامعة دمشق الأدب العربي ودبلوم التربية، وعاد إلى مسقط رأسه ليعمل في مدارسها، وانضم إلى اتحاد الكتاب العرب فكانت له اليد الطولى في نشاطه وتطوره، شارك في عدة مؤتمرات لهذا الاتحاد، ولكن الموت الذي أقلقه في حياته، وكتب عنه كثيراً، لم يمهله طويلاً، فرحل عن الدنيا في ريعان شبابه سنة 1976.

سيطر موضوع الموت على نظرة سالم بأكملها للعالم، ويمتد فيتجاوز المصير الفردي وصولاً إلى مصير البشرية، فيقول: “الغاية من الكتابة عندي، هي مجابهة الشعور بالموت على الصعيد الفردي والصعيد الاجتماعي والتغلب عليه، ولكنه يحاصرني أبداً”.

إنّ بطل رواية “في المنفى” يعلم أنّه لا يستطيع بفعل اختياري بسيط أن يصاب بالحزن والكآبة أمام الموت، فيكتفي بالقول: “لقد آلمني موت هذا الفتى كثيراً، ما كان له أن يموت”.  وهنا يرتد البطل إلى نفسه ليعيش في غربة نفسية، تؤجّجها مشاعر الخوف من الموت الشخصي. وقد تحوّل قلقه من الجانب المظلم في الحياة إلى هلع أمام الجانب المظلم في الموت وها هو يواجه موته وحيداً وقد تخلّى عنه الجميع حتى أقرب الناس إليه. وهذا الوعي الذي يصاحب إحساسه بمشكلة الموت هو الذي يجعل منه بطلاً وجودياً يدرك أنه لا معنى لحياته على الإطلاق، إنه يعيش في غربة نفسية قاتلة، وهنا يأتي الموت فيزيد من شعوره بعبثية الحياة، ويثير في نفسه الرهبة والجزع.

في مجموعة سالم “حوار الصمّ”، نلتقي بموظف متقاعد أقعده المرض، لم يبق له إلا التفكير في مكتبته للهروب من الموت، ولكن الموت يسيطر عليه وكأنه كابوس يلاحقه ويمكن أن يحرمه من لذة الحياة كلّ دقيقة، وممّا يساعد الكاتب هو تصويره لمراسم الدفن بكلّ دقة حتى يظن القارئ أنه يسير في جنازة حقيقية، مثلما حدث في قصة الرنين الخفي، ولكنه يذهب أبعد من ذلك حينما يصور شخصياته في قبورها، والكاتب إذ يبالغ في وصف تفسخ الأجساد البشرية بعد الموت فإنه لا ينسى أن يتحدث عن أمتع ما في الحياة: الحب، لأن الإنسان ليس مجبولاً من اليأس فقط، بل ومن الإيمان والأمل، وليس من الموت فقط، وليس من العزلة وحدها، بل ومن لحظات وصال وحب كذلك.

إنّ أكثر النقاد ألمحوا إلى العلاقة الأدبية بين غابرييل مارسيل وسالم، فمارسيل كافح من أجل التحرر من فكرة الموت من خلال المعرفة الأسمى بالخالق، وهذه المعرفة تأتي عن طريق الفلسفة، وهذا يذكرنا بموقف سالم الذي سيطرت عليه فكرة الموت دونما توقف، والذي كان دائم التساؤل عن سر الموت، ومارسيل وسالم ربما وجدا الإجابة المنشودة على كلّ الأسئلة المطروحة حول الموت في صلب السيد المسيح الذي ضحى بحياته في سبيل الآخرين .

إنّ الازدواجية التي رأيناها عند جورج سالم تتكرّر عند آلبير كامو، ومثلما رأى كامو في موت الطفل مأساة السيد المسيح، رأى سالم أحد أبطاله مصلوباً في باحة المدرسة، عنواناً للبراءة والتضحية بالذات في سبيل كلّ ما هو سام وعظيم.

إنّ الموت يمثّل المستوى الأوّل من في أدب جورج سالم وغابرييل مارسيل وآلبير كامو، ومنه تنشأ كلّ الإشكاليات التي تعصف بشخصياتهم وتجعلهم قلقين لا يركنون إلى قرار.  وقد يقودهم ذلك إلى الشعور بعبثية الحياة، وعندما تحس الشخصية بمأزقها الوجودي تهرب إلى الدين علّها تجد فيه ما يروي ظمأها للمعرفة، غير أنّه من الجلي أن مثل هذا الهروب لم يكن مرضيا تماماً، ومن هنا تنشأ الإشكالية ويستحيل عندها المصالحة مع الموت.

فيصل خرتش