ثقافةصحيفة البعث

أمي

أثناء دراسة والدتي في فرنسا شاءت الأقدار أن أبصر النور هناك، وأن أكون مرافقاً لها خلال دراستها للدكتوراه وعندما كبرت كنت أشعر بالسعادة عندما اسمع منها الجملة التي تقول: “كنت وطناً لي في غربتي”.

كانت أمي تقول لي بأنها تواصلت مع شرائح مختلفة من الجنسيات في باريس كي تخفف ثقل الغربة عنها، ومرت الأيام وأصبحت أمي تتواصل مع الفرنسيين وخاصة كبار السن كي تتقن أكثر اللغة الفرنسية وكي تبني معهم جسور محبة وثقافة، ولأنهم الشريحة التي تملك وقتاً حراً للتحدث على عكس الشرائح الشابة الأخرى المنشغلة بالعمل خلال فترتين في اليوم.

أعجب الفرنسيون بطموحها وإصرارها على النجاح والتفوق رغم البعد الجغرافي الذي يفصلها عن أهلها وعن زوجها، وما زاد إعجابهم بها هز كرمها وثقافتها وانفتاحها على بقية الشعوب وبعدها كل البعد عن التعصب، كما ساعدها على نقل ثقافتها اتقانها للغة الفرنسية.

أعطت أمي مثالاً عن المرأة السورية المثقفة والمتفوقة والطموحة، فقد نالت شهادة الدكتوراه في زمن قياسي. وفي يوم الدفاع عن أطروحتها قامت بدعوة العديد من أصدقائها، ومن بينهم زوجان فرنسيان عجوزان ربطتهما بنا علاقة وطيدة، فقد كانا معجبان بسورية والثقافة السورية وعلى وجه الخصوص بالمرأة السورية المتعلمة. حضر الجميع الدفاع الذي استمر ثلاث ساعات كنت خلالها طفلاً صغيراً  لا أدرك ماذا يعني الدفاع عن الأطروحة، وقد فهمت ذلك بعدما كبرت ورأيت الفيلم الذي صورته صديقة أمي خلال الدفاع.

بعد ما كبرت، لا أقدر إلا أن أرفع القبعة لأمي الطموحة التي أعطتني مثالاً للصبر والإصرار على المضي قدماً لنيل أعلى الشهادات العليا من أرقى جامعة في العالم. نعم إنها جامعة السوربون في باريس، والتي يحلم بزيارتها ونيل الشهادات منها غالبية الطلاب العرب والأجانب.

لقد فهمت أنه يجب على الإنسان أن يكون متعلماً ومثقفاً، فالشهادات لا تكفي وإنما يجب علينا أن نترجم ثقافتنا من خلال الانفتاح على الآخر وتبادل المعلومات والاستفادة من الخبرات ونبذ الأفكار المغلوطة وهكذا نستحق أن نكون متعلمين ومثقفين في آن معاً.

أمي لقد كنت وطنك في الغربة كما كنت تقولين، وها أنت في وطني صمام الأمان الذي يحميني من الخطر والشر ويدفعني لكي أكون عنصراً فاعلاً في المجتمع. كم أفتخر بك وأحبك.

عودتنا لبلدنا كانت بمثابة دليل قوي يؤكد محبتنا لأمنا الكبرى، سورية. فسورية هي الأم الرؤوم والحنون التي يتوجب علينا إحاطتها بمحبتنا وإخلاصنا ووفائنا.

شكرا ياأمي فقد تعلمت من محبتك محبة سورية ومن طموحك عظمة سورية ومن عودتك لها بعد نيلك الدكتوراه ولاءك وإخلاصك لتراب بلدك.

فلتحيا سورية التي أنجبت أمي ولتحيا أمي السورية التي أنجبتني.

د. منيرة خضر