مجلة البعث الأسبوعية

في “سمكري الهواء”.. الشاعر سرجون كرم يكتب ذكرياته وحيداً

البعث الأسبوعية- عمر محمد جمعة

في ديوانه “سمكريّ الهواء.. العليم بكلّ شيء”، والصادر حديثاً عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ويضمّ تسعاً وخمسين قصيدة، يذهبُ الشاعر سرجون كرم، إلى أهم عاملين من عوامل إنجاح قصيدة النثر وأداء غايتها، ونعني بذلك الإيجاز والتكثيف، ويوظّف بإمكانات العارف هذين الركنين بما يعلي ويسمو بخطابه الشعري كي يكون خالداً قاراً في وجدان المتلقي أو القارئ، فضلاً عن اشتغاله على تعزيز القيمة الجمالية والجهر بمكانة وأهمية الإرث الشعري والإبداعي العربي الذي اتكأ عليه في كثير من نصوصه عبر البلاغة اللغوية والتضمينات والتناصات التي تشي بثقافة الشاعر وإيمانه المطلق بضرورة اجتراح حداثة مختلفة تُخرجُ القصيدةَ من رتابتها وتقليديتها وتنأى بها عن الاستسهال والتكرار والشرح، بل السعي إلى بناء حالة شعرية مدهشة يدرك سرجون كرم خصوصيتها، وهو الراصد العليم والمبحر الدؤوب في تلمّس تطور الشعرية وتناميها، سواء في القصيدة العربية أو نظيرتها الأجنبية.

ولعلّ الملمح الأبرز في قصائد “سمكري الهواء” هو تعدّد موضوعاتها وتنوّع عناوينها المضمرة أو المكشوفة، وانفتاحها اللامتناهي على التأويل، بل وحركيتها المتعالية على المستويين الفني واللغوي، مع الإشارة إلى رغبة الشاعر في رسم صور الماضي ومقارنتها بالحاضر الذي يبدو أكثر فداحة وبشاعة فيما لو عادت صور الحرب وذكرياتها اليوم، ولاسيما إذا علمنا أن كرم عاش الحرب الأهلية اللبنانية واكتوى بنيرانها، يقول في قصيدة “لكم حربكم ولي سلامي”:

حربكم ليست حربي

فدعوني وشأني

وامضوا فرادى وجماعات

إلى المجزرة

أنا طفل تموتُ بضحكته آيات النساء

وأنتم مقبرة

تفتح مقبرة.

سنلاحظُ هنا قدرة الشاعر على ابتكار لغة ومفردات تخلق معادلاً موضوعياً لحالة الخوف من حرب لن يكون مصيرها إلا المجازر والمقابر التي ستبتلع كل شيء، حتى أحلام الشهداء، يقول في قصيدة “الشهداء”:

يُبكيني الشهداءُ حين يرحلون

ويعودون..

دموعاً على وجنات أمهاتهم

كي يناموا بيننا.

على أنّ ما يمكن الوقوف عنده أيضاً في “سمكري الهواء” هو المكان الذي سيتحوّل من حيّز جغرافي عابر إلى رمزٍ متأصّل في وجدان الشاعر، ومحطات تضجّ بالذكريات التي يكتبها وحيداً، يعبّر فيها عما يجول في أعماقه من وجع ووحشة وغربة وما آلت إليه البلاد، يقول في قصيدة “المغني حين يكتب الذكريات”:

في البلادِ التي يدفعُ سكانها وسادةَ الأحلام
أجرةً للنوم

يحتفلُ المغني بعيد ميلاده وحيداً

أمام شمعةٍ

وكوب ماء وسراب

وأيقونة العذراء

وفي قصيدة “سمكريّ الهواء” ستتحوّل الساحات الفارغة إلى أنيسٍ يستشعرُ دواخل وجوانيات ذلك الغريب الذي يرى أن التراخي والسكون أصاب كلّ شيء ولا بد من إصلاح حتى الهواء، لعلّ كل شيء يعود إلى طبيعته، يقول:

هذه الساحات الفارغة

تخطو خطوتين إلى الوراء

كي أمرّ بعدّة السمكريّ

أصلح الهواء

أشدّ براغي الحجاب

وأبدّل السماء بجرس كنيسة.

هذه الساحات الفارغة تفسحُ الطريقَ

حين أمرّ إلا من ياقة

ينمو حولها شجرٌ أبيضُ.. كاهناً عارياً

يتربّص بمن غادر

كي يملأ الفراغ خلفه حكايات.

في هذه الساحات الفارغة

بمقدحِ النعمةِ

أقدحُ جبال الخيبة،

بمطرقة الرحمة

أطرقُ نحاس الخطيئة،

بمنشارِ الموتِ

أنشرُ شجرَ الخوفِ..

وطفولتي على حبال الغسيل.

لقد أسهب الشاعر سرجون كرم في بعض قصائده في استعادة زمن الطفولة، حتى باتت ثيمةً يستحضرها كلما أمضّه الشوق إلى الماضي الذي قد يكون موجعاً في بعض تفاصيله ومحطاته، يقول في قصيدة “أسفار الشياطين”، واصفاً شعور الطفل:

من يعرف شعور الطفل

حين لا أرضَ تحت قدميه

ولا سقف يظلل رأسه

ولا أي رجل ميلاد يحقق أمنيته؟

وسنكتشف أيضاً أن الشاعر لا يؤمن أيضاً بطفولة صامتة تكتفي بواقعها وترضى بما يعجّ به من تناقضات، بل يعمد إلى استفزاز أحلامها ومغامراتها الباحثة عن تحقيق الذات، حتى لو أشقاها الخوف والرهبة والعذاب، يقول في قصيدة “أريد الكلام”:

أريد الكلام..

أمدّ يداً في السماء كطفل
يبرحش في جوف زيتونة
وجده ينهرهُ: “يا بني رضاي عليك
توخّ الأفاعي”..

إن حالة التصاعد في المعنى الحكائي تستدعي أن يتشبّث بآمال الطفولة التي لم يعشها، ويتشّهى أن ترجع على ما فيها من ذكريات، يقول في قصيدة “سيرجع الطفل يوماً”:

طبعاً سيرجع الطفل يوماً

إلى الأغنية التي خرج منها

سليماً

من دون عكاز

ولا ضمادة جروح

طبعاً سيخبرُ أمه الأخرى على الطرف الآخر

أنه كان قصيدة كتبها رجل طاعن في السنّ

يجلس فوق غيمةٍ

فتجسّد

وغاب قليلاً كي يتمدّد

وعلى ما سبق سندركُ أن سرجون كرم يتبنى مفهوماً مغايراً لوظيفة الشعر، فيقول في حديث سابق له: إن الشعر هو تعبير بالكلمات وليس كلاماً يطلق طاقة شخصيّة تريد أن تحيا وتستمرّ في الحياة، الشعر ليس مجرّد وصف مشاعر وعوالم مغلقة بل هو الفنّ الأكثر شخصانيّة في طرح مسألة الوجود والإنسان.

إذاً هو مواجهة بين الإنسان والحياة بظروفها الرخيّة أو القاسية، وبحث عن وجود أكثر استقراراً وأماناً، يقول في قصيدة “أيتها الحياة”:

أيتها الحياة..

قولي لي شكراً..

قولي شكراً للطرقات التي رصفْتِها.. كي تريني..

نصف قرن

كأنّ الأرض تعدو خلفي..

كأنّ الشعرَ..

كأنّ الداكنَ القاحلَ

القادمَ صوبي

والهارب أنا منه في بلاد الغربة

شبهُ جزيرة عربيّة.

بقي أن نذكرَ أن الشاعر سرجون كرم من مواليد بيروت عام 1970 حاصل على ليسانس في اللغة العربية وآدابها، والماجستير اختصاص ألسنيّة من جامعة البلمند اللبنانية، ودبلوم في اللغة الألمانية وآدابها من جامعة هايدلبرغ ألمانيا، نال الدكتوراه في الأدب العربيّ عن أطروحته التي عنونها بـ”الرمز المسيحي في الشعر العربيّ الحديث” من جامعة هايدلبرغ، ويعدّ اليوم مدير مشروع الترجمة للشعر العربي الحديث إلى اللغة الألمانية، له أربعة دواوين شعرية، منها: هذا أنا، وسندس وسكيّن في حديقة الخليفة.