الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

إنها قرى.. وكفى!

حسن حميد

أعترفُ، بأنني ما كنتُ مهموماً بأن يكون سعيد أبي النحس المتشائل هو أميل حبيبي ذاته (1921-1992)، أو أن سيرته الروائية تطابق سيرة حياة أميل حبيبي، هذا الأمر، وعلى الرغم مما فيه من دلالات وعلامات موجعة، ما كان ليلفت انتباهي، ليس لنفوري من السياسة ودروبها الضليلة، وغموضها، وانحناءاتها وانعطافاتها الملتوية، وإنما لأنه أمر غرضي تكمن وراءه أنفاس لا أحبّها، ولم أسعَ إليها، ما همّني حقاًّ هو أن أميل حبيبي كتب رواية مهمة جداً، في حكايتها، وصيغتها الفنية التي اقترحها، وفي سطورها المضيئة التي مدّها بحذق مدهش حتى بدت محتشدة بالجواذب المتعددة، إنها رواية طوّبت حضوراً آبداً لاسمه، إذ من الصعوبة أن تنفذ إليه روحُ الغياب، وهذا أمر رأيناه في تجارب عالمية أخرى وفي مجال الرواية أيضاً، فمثلاً رواية الدكتور جيفاغو للروسي بوريس باسترناك (1890-1960) وحين تقرأ اليوم، تجعل كل ما قيل عنها إبان صدورها، ومنحها جائزة نوبل، وهو كثير جداً، مجرد نوافل لا قيمة لها، وإن كان في هذه النوافل الكثير مما يؤلم ويجرح، لكن ما بقي وتجذّر هو أنها رواية تقرأ اليوم بمتعة ضافية على الرغم من الروح التاريخية التي تشي بها من جهة، والروح الناقدة لأسلوب حياة جديدة، هي الحال الاشتراكية التي عرفتها البلاد الروسية آنذاك، والحال هي نفسها، من حيث الأهميةُ والمكانةُ، حين نواقف رواية همنغواي (1899-1961) الشيخ والبحر، فنحن نقرؤها بلهفة كيما نتعرّف أمرين اثنين هما (الكرامة) و(الأمل) عبر قوة الإرادة، والصلابة، والصبر، والمقاومة، فهي، ومن خلال كلّ سطر من سطورها، تقول لنا من الممكن أن يخسر الإنسان جولات مع الظروف، والآخرين، وأن يعرف الهزيمة ويتذوق طعومها، ولكن عليه ألا ينكسر، لأن الانكسار يعني التفتت، والتلاشي، والضعف، ثم الموات! عليه أن يصبر، وأن يستولد من هذا الصبر طعوم الانتصار المحلومة! هذه الرواية (الشيخ والبحر) أخفت وراءها، وطيّ ظلالها الوارفات، الكثير من أعمال همنغواي، لأنها صارت هي الضوء الجاذب الذي يعرّف بهمنغواي أحسن التعريف، وكذلك حين نقرأ رواية (صمت البحر) لـ فيركور/ جان بروليه الفرنسي (1902-1991) الشبيهة باحتشاد أسطرها، وقلّة صفحاتها، برواية (الشيخ والبحر) لـ همنغواي، فنحن، هنا، نرى وجهاً آخر لصلادة الإنسان حين تتعرض بلاده للدموية والبطش وطيوف الهيمنة والاستلاب، لقد قال (فيركور) وبالهدوء الأتمّ في روايته (صمت البحر) إن الثقافة حضور، وإن الصمت حضور، وإن القيم الإنسانية النبيلة حضور، كلّها لا تُهزم في غوغائية مخيفة اسمها غوغائية الحرب، تُرى من يعرف شيئاً مضافاً عن (فيركور) بعد قراءة (صمت البحر)، علماً بأنه كتب روايات عدة، ورسم رسوماً كانت لها رهجتها آنذاك؛ صنيعه هذا (صمت البحر) بات الكتاب الذي يعرّف به.

بل لننظر إلى زمن أبعد، هو زمن سرفانتس (1547-1616) صاحب (دونكيشوت) والتجربة الأدبية الواسعة التي عمل عليها في مجالات القصص، والروايات، والمسرحيات، والشعر، فمن يذكره في تلك الأعمال إلا على سبيل الاستعراض التاريخي الذي يمهّد لظهور هذا العمل الفريد (دونكيشوت)، أو ما يقال عن أعمال أخرى تلته، ولكنها لم تكن تماثله في الدهشة والجمال والحضور الأدبي.

قلت هذا كلّه لأشير إلى أن عملاً، أدبياً واحداً أو عملاً فنياً واحداً، استوفى ما استوفته القرى كيما تكون قرىً، كافٍ ليأخذ الأديب أو الفنان إلى عالم الشهرة الأبدية، فيصير هذا العمل متراس هذا الكاتب أو الفنان الذي يصدّ عنه كلّ صخب النوافل والهوامش وغضباتها التي تودّ لو أنها تطال منه فتحنيه، لهذا قلت إن رواية أميل حبيبي (وقائع اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) تكفي وحدها للتعريف بأهميته الأدبية، وقدرته الفنية، بعيداً عن كلّ الأسئلة الشيطانية التي أثيرت حول الرواية.

العمل الأدبي الرّفيع، أو الفني الفذ، عالم يشبه عالم القرى، إنه  قرى.. وكفى!.

Hasanhamid55@yahoo.com