مجلة البعث الأسبوعية

“الناتو” يخطّط للتوسّع.. وأوروبا أمام امتحان الزوال والتقسيم

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

ربما تكون من المفارقات الغريبة أن يعمد حلف شمال الأطلسي إلى افتعال أزمة مع روسيا عبر أوكرانيا لمجرّد الرغبة في توسيع وجوده شرقاً، حيث اضطرّ هذا الحلف إلى صناعة أزمة ربما تأتي على الاتحاد الأوروبي برمّته، في محاولة لإيجاد مسوّغات لإقناع جميع الدول الأوروبية التي كانت تقف على الحياد من مسألة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بضرورة الانضمام إليه حماية لها من الوحش الروسي الذي يهدّد بابتلاعها تبعاً للدعاية القائمة على الساحة الأوروبية منذ ما قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

لقد تمكّنت الإدارة الأمريكية، بمساعدة بريطانيا طبعاً، من تزيين فكرة الانضمام إلى حلف عسكري قويّ، يمكن أن يقف في وجه روسيا التي تحلم باستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق، في أذهان قادة الدول الأوروبية المجاورة لروسيا، وهذا بالضرورة يقتضي أن تعمد القيادة الروسية إلى استمالة الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي السابق وإقناعها بالعودة إلى هذا الاتحاد، وذلك باستخدام الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، وقد دعمت الإدارة الأمريكية فكرتها هذه من خلال الآلة الإعلامية الضخمة التي تمتلكها، فعمدت إلى زرع فكرة الرهاب من روسيا في أذهان قادة هذه الدول قبل شعوبها، الأمر الذي ولّد لدى هؤلاء خوفاً فعلياً من إمكانية أن تكون القيادة الروسية تفكّر بالفعل بهذه الطريقة، ودفعهم إلى أن يسلّموا منذ البداية مهمّة التفكير في هذا الأمر إلى ما يسمّى الحليف الأمريكي الذي يدير الصراع القائم بين الدول الأوروبية وروسيا من بعيد، بينما يقف هو متفرّجاً ساخراً من حماقة قادة هذه الدول الذين قرّروا الوثوق به من خلف المحيط، في الوقت الذي كان باستطاعتهم أن يحاوروا القيادة الروسية ويتأكدوا بالفعل من صحّة الادّعاءات الأمريكية حول مطامعها بدولهم.

وربّما كان ظاهراً منذ البداية أن هذا الأمر تمّ العمل عليه كثيراً بين واشنطن ولندن منذ سنوات طويلة قبل الأزمة الأوكرانية، فجميع الأزمات الجانبية التي تم افتعالها مع روسيا في السنوات الماضية كان الغرض الرئيسي منها شيطنة روسيا وإقناع الأوروبيين أنها تتدخل في شؤون الدول الأخرى أو تمارس نوعاً من القرصنة عليها، ابتداء من ادّعاء تسميم العميل البريطاني سيرغي سكريبال الذي اعترف بتعامله مع جهاز الاستخبارات البريطاني “إم-6″، ولكن الحكومة البريطانية لم تقدّم أيّ دليل مادي على صحّة ادّعائها هذا، ولكنها استمرّت بالتعاون مع واشنطن في توجيه الاتهام إلى روسيا بهذه الجريمة، وذلك ضمن سياق ممنهج لشيطنة روسيا وتشييع فكرة روسوفوبيا داخل أوروبا.

ثم استمرّت المحاولات الأمريكية لرفع منسوب العداء لروسيا داخل أوروبا مرة عبر اتهامها مباشرة كما في حادثة الطائرة الماليزية، وأخرى عبر اتهام حليفها الاستراتيجي بيلاروس بحوادث داخل أوروبا مثل قضية الطائرة الإيرلندية أو مشكلة الحدود مع بولندا، وكل ذلكّ في غاية واحدة هو شيطنة روسيا وإضعافها.

ورغم جميع الأصوات التي تعالت من الولايات المتحدة ذاتها ومن أوروبا، بأن واشنطن تعمل جاهدة على تسميم العلاقات الروسية الأوروبية عبر شيطنة روسيا ونشر التضليل والأكاذيب حولها، غير أن هذه التحذيرات لم تجد آذاناً مُصغية لدى قادة الدول الأوروبية الذين أوكلوا أصلاً مهمّة التفكير بطبيعة العلاقة مع روسيا لحليفهم الأمريكي، فصار الأمريكي يسيّر القادة الأوروبيين وفقاً لهواجسه الخاصة، ما دام العقل الأوروبي عاجزاً عن التفكير في مصالحه.

ومن هنا، وجدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة سهولة كبيرة في إقناع الأوروبيين بأن روسيا تبحث حقيقة عن التمدّد في أوروبا، ولا سبيل لإيقافها إلا باصطناع أزمة تكون أوكرانيا بقيادتها المستلبة وقوداً لها، ظنّاً منها أنها تستطيع عبر “الأداة الأوكرانية” تصوير المشهد على أنها الحصان الوحيد القادر على هزيمة روسيا وإعادتها إلى داخل حدودها بعيداً عن التدخل في القضايا العالمية الكبرى، فأقنعت الأوروبيين بضرورة دعم هذا الحصان حتى النهاية في حرب الناتو على روسيا، وراح السلاح الغربي يتدفّق على النظام في كييف بطريقة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، بل أعلن الغرب صراحة أنه لا ضير لديه في الاعتماد على الإرهابيين والمرتزقة من كل أنحاء العالم في سبيل هزيمة الخصم الروسي، وهذا ما أدّى بالمحصّلة إلى إفراغ الدول الغربية من مخازين السلاح، الأمر الذي جعلها مضطرّة لشراء السلاح الأمريكي لتعويض النقص الحاصل، وليس هذا فقط، بل إن بعض الدول مثل بولندا أوغلت في عداء روسيا حتى استمرأت إرسال الآلاف من المرتزقة البولنديين إلى أرض المعركة في جبهات أوكرانيا وسقوطهم قتلى أو أسرى بيد الجيش الروسي، الأمر الذي فرض عليها الخوف من ردّ الفعل الروسي على حرب كانت تخوضها ضدّ روسيا بالوكالة ثم أصبحت بفعل انغماسها في التحريض والتسليح وتجنيد المرتزقة، تخشى من تحوّلها إلى جبهة أخرى في الحرب مع روسيا، وهذا ما دفعها إلى الإعلان عن ذلك صراحة وعقد صفقات سلاح كبيرة مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة لتعويض عجزها الواضح عن مواجهة روسيا فيما بعد.

وفي سياق التصريحات الغربية التي حذّرت الأوروبيين من مغبّة قطع العلاقة مع روسيا، جاء ما قاله الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب مؤخراً، في اجتماع حاشد في أوهايو، حيث أكد أن الألمان ربما “يخسرون بلادهم” بسبب انخفاض إمدادات الطاقة الروسية، على خلفية الصراع في أوكرانيا، مشيراً إلى أن برلين ستعود قريباً إلى الفحم الذي لا تملكه وربما لن تحصل عليه إلا من روسيا، ولكن ذلك سيكون عندما لا تعود ألمانيا موجودة على الخريطة، وبالتالي كان على المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن تسمع نصيحته وترفع الراية البيضاء أمام روسيا.

ربما يكون حديث ترامب هذا في سياق مزايدات سياسية معيّنة، ولكنه في الحقيقة يشير إلى قناعة لدى النخب السياسية الأمريكية في أن التوجّه العام لدى الأوروبيين في العلاقة مع روسيا سيكون مسدود الأفق بالقياس إلى حجم الضرر الذي جلبته العقوبات الغربية على موسكو إلى الدول الأوروبية، حيث باتت الدول الأوروبية مجتمعة تفكّر في المأزق الذي وقعت فيه على أبواب الشتاء مع استمرار حرب الناتو على روسيا دون هزيمتها، وبالتالي استمرار حرمانهم من النفط والغاز الروسيين اللذين لا يمكن تعويضهما مهما حاول القادة الأوروبيون تزيين ذلك لشعوبهم.

ولكن الغريب في هذا التوقيت بالذات أن يعترف رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، روب باور، بشكل رسمي بأن التخطيط لتوسيع وجود “الناتو” بالقرب من حدود روسيا “بدأ منذ عدة سنوات”.

وقال في مؤتمر صحفي عُقد يوم السبت في تالين عقب اجتماع رؤساء أركان الناتو تعليقاً على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف: “بحثنا الإصلاح الأكثر شمولاً لهياكلنا العسكرية منذ عام 1949. وبدأ التخطيط لذلك منذ عدة سنوات، والآن نقوم بتنفيذه”.

فالحلف، حسب هذا التصريح، كان يخطّط منذ زمن بعيد كيف يقنع الدول الأوروبية الصغيرة التي تقف على الحياد، أن تطلب بنفسها الانضمام إليه لحمايتها كما يقول، ولكنّه نسي أو ربّما تناسى أن الآثار المستقبلية لهذا الصراع مع موسكو، ربما تؤدّي إلى زوال هذه الدول وظهور دول أخرى على الخريطة السياسية الأوروبية، إما في ظروف الحرب العسكرية، وإما من خلال سقوط حكومات أوروبية وتدحرج الأوضاع إلى تقسيم جديد لهذه القارة على خلفية الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي وصلت إليها دولها، حسب تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين المعتدلين الذين ما برحوا يحذّرون من كارثة وشيكة ستحل بالدول الأوروبية إذا استمرّ هذا الصراع مع موسكو.

فإذا كان حلف الناتو قد سعى بالفعل إلى كل هذه المشكلات مع روسيا لإقناع بعض الدول بالانضمام إليه، وبالتالي ضمان توسّعه شرقاً نحو الحدود الروسية، فهل يستطيع “ناتو” ضمان وجود هذه الدول على الخريطة السياسية إذا تمكّنت الأزمة الاقتصادية الحالية من تمزيقها وتقسيمها، بل ربما نشوب حروب وصراعات أهلية داخلها تؤدّي إلى إزالتها من الخريطة.